Monday, August 1, 2016

محاولة لفهم خطاب التصهين العربي



علاء با مطرف

لعبة الكذب السياسي 

تغير المفاهيم السياسية وتغير القيم المرتبطة بهذه المفاهيم سواء من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو الأخلاقية شكل في الغرب وفي الفلسفة الغربية نقطة مؤرقة وحاضرة في السؤال الأخلاقي ، انطلق دريدا مرعوباً من فكرة الكذب السياسي وألف كتابه تاريخ الكذب  في محاولة لإيجاد قراءة لهذا الفعل وتأثيراته ، و الرعب الذي استولى على دريدا كان من قدرة الكذب السياسي على تغيير مفاهيم  الصدق والكذب والحقيقة ، فحروب اليوم سيتم الإعتذار عنها غداً  وستتم المحاسبة  بقوانين اليوم في جرائم الأمس التي كانت في وقتها غير مجرمة و دون الاعتبار لظروف كثيرة ،  سبق لحنا أرندت أن تحدثت عن  أن بنية الكذب تتعمق أكثر من خلال البنية الجديدة للإعلام مما يجعل الكذبات السياسية الخاضعة للمصلحة والظرفية تتأصل كحقائق في الوعي الاجتماعي .
يركز دريدا على أن الانحرافات التي قد تدافع عنها الدول لا يمكن الصمود أمامها فقط بالصفة القانونية بل يجب كما يقول : (( العمل دون توقف وكلما تطلب الأمر كذلك، على الحوار واستدعاء البراهين والشهادات واسترجاع الماضي والاهتمام به والاعتماد في استدلالتنا على الأرشيفات التي لا يمكن الطعن فيها ... هذا لا يعني بأن الدولة ليس لها أي حق في هذا السياق ولكن يجب كذلك الاحتراس منها فهي قد تضر بالقضايا أي بالحقائق في حالة ما إذا احتكرتها ، و قد تجعل منها مجرد عقيدة  دوغماوية  أو أرثذوكسية ))
ولفهم هذا الخوف الذي أثر  على السؤال الأخلاقي في الغرب يمكننا  تطبيق مفهوم الكذب السياسي  في واقعنا العربي و كان لابد لهذا التطبيق أن يكون ناشئاً من خطاب الدولة العربية الحديثة ، وأكثر قضية عاصرت تطور الدولة العربية كانت هي القضية الفلسطينية التي مازالت عالقة إلى اليوم ، وسأقوم بتطبيق خطاب الدولة المصرية تجاه القضية الفلسطينية لتحليل  الكذب السياسي وأثره على الوعي الإجتماعي . والنموذج المصري هنا باعتبار مركزيته في الصراع وباعتبار أنه ذهب بعيداً في التطبيع .

من العدو إلى الصديق 
  
 سنستعرض التحولات التي طرأت على معالجة  الخطاب الرسمي المصري  للقضية الفلسطينية وللعدو الإسرائيلي والتي  أخذت  منحى متغير محاولاً تلخيصها في النقاط التالية ثم سأذكر تأثيرها على الخطاب الشعبي العام  :
1- حديث عبدالناصر مع صحفي بريطاني عن أن  الحل الوحيد هو استخدام القوة فأنت تملك الحق ولا أحد يريد أن يعيده لك وفي خطابات أخرى تحدث عن أن المشكلة ليست استرداد سيناء فقط وليست مشكلة حدود بل مشكلة وجود.
2- خطاب السادات في الكنيست الإسرائيلي حيث تحدث عن الحاجز النفسي الذي يمثل 70% من المشاكل التي تعرقل السلام  ومشاكل الحرب و إزهاق الأرواح و ترمل الزوجات وتيتم الأطفال ، والحديث عن المستقبل و ضرورة أن تواجه جميع الأطراف الواقع بكل شجاعة .
3- السلام البارد في عهد مبارك والذي تم فيه استكمال نقاط اتفاقية السلام  .
4- حديث السيسي وبدون مناسبة سابقة في افتتاح محطة كهرباء أسيوط منتصف شهر مايو الماضي عن العلاقة مع إسرائيل  وعن ضرورة تجاوز الكراهية والحقد والتسامح وبناء تصور جديد للمنطقة يكون الحب والسلام والوئام والأحضان عنوانه الرئيسي.
هذا التحول من عبدالناصر إلى السيسي ، باعتباره خطاب الدولة ، وباعتبار التأثير المؤكد للدولة العربية في غياب قنوات التعدد والديموقراطية ، فالخطاب الرسمي هو المسيطر على الصحافة والإعلام والثقافة والدين وبالتالي فهو مايبني بشكل أو آخر الوعي الاجتماعي ، بمحاذاة هذا التحول الرسمي  السابق يمكن ملاحظة أثر هذا التغير الرسمي على  النظر الشعبي  للقضية الفلسطينية :
1- مرحلة التحرر الوطني : قضية وطنية – حق مؤكد – تحرر من الاستعمار
2- مرحلة سيطرة الحركات التقدمية والخطاب اليساري : سيطرة إمبريالية  – هيمنة غربية – نبتة سرطانية
3- مرحلة الانفتاح الإقتصادي : صراع منهك  – عدو قوي – ضغط دولي
4- مرحلة الخطاب الإسلامي : حق ديني – سلب مقدس– القبلة الأولى للمسلمين
هذا التقسيم لاينفي تداخل الشعارات أو المسارات لكنه يمثل الخطاب الطاغي في فترة ما ، و أهمية فهم هذا التحول هي التي ستمكننا من فهم  الخطاب المتصهين الحالي والذي هو ناتج بشكل أو آخر للخطاب الرسمي وقنواته. هذا التحول  أنتج خطاباً متصهيناً يعتمد على  نقد المسار الرابع  : الحق الديني – سلب المقدس – القبلة  الأولى للمسلمين, رغم أن هذا الخطاب هو  نتيجة لمرحلة الخطاب الإسلامي الحركي الجديد الذي ازدهر منذ الثمانينات والذي أبرز القضية الفلسطينية بشكل ديني مما جعل الخطاب المتصهين حين  يتناول القضية يناقش موضوعات مثل : السلام – التسامح – حوار الأديان – فهم الآخر – إيقاف الكراهية – معاداة الأصولية أو مثل التي  رأيناها في خطاب السيسي ،  وجعل من الذين يعارضون التطبيع: أصوليين – تكفيرين – أصحاب نزعة الرأي الواحد ، واختفت جميع المصطلحات والمفاهيم التي تم تناولها في المسارات السابقة : اللجوء – الأرض – 48 – 67 – المخيمات – الشهداء –المقاومة – العدو المشترك – المصيرالواحد .فحين يصرح يوسف زيدان بأن المسجد الأقصى المقصود في القرآن الكريم كمكان لرحلة الإسراء والمعراج ، ليس هو الكائن حالياً في فلسطين ويستنتج أن القضية الفلسطينية هي قضية وهمية أصلاً  وأنه تم التلاعب بالفلسطينين واليهود، ينتقد الطرف الديني تصريح يوسف زيدان دفاعاً عن القضية الفلسطينية لكنه يعتمد في دفاعه على إثبات أن القدس إسلامية وهكذا يتم الإلتفات إلى مشكلة غير مؤثرة فسواءً كانت القدس إسلامية قبل ألف سنة أو لا لن يكون هذا مؤثراً في قضية تحرر وطني ،  من الواضح هنا وفي أمثلة أخرى أن الخطاب المتصهين يعتمد على بناء تصور مغلوط للقضية على أنها حق ديني مثلاً ثم ينتقدها بناء على هذا التأصيل  الخاطيء فيتبنى شعار التسامح وخصوصاً بالنسبة لقوى الثورة المضادة للربيع العربي ، هذا الخطاب لم يكن ليكون مهماً أبداً أو مؤثراً أو حتى يستحق أن يتم تناوله لولا أنه أصبح خطاباً رسمياً يصرح به رئيس دولة ويتناوله الإعلام باعتباره الخطاب الرسمي القادم للمنطقة عموماً بل ويشجع عليه .                                                                                      
وفي الفترة السابقة حين كانت القضية تدور في المسار الثالث: صراع منهك  – عدو قوي – ضغط دولي والتي تمت في وقتها معاهدة  السلام يمكننا ملاحظة أن  الخطاب المتصهين كان يتذرع بمفاهيم : أخذ راحة من المعارك – فوائد الاستقرار – فوارق التنمية والتعليم والتسليح بين العالم العربي وإسرائيل .ففي جواب الشيخ الشعراوي عن سبب مباركته للصلح مع إسرائيل أجاب : السبب الرئيسي في ذلك أننا منذ عام 1948 غرقى ، وهناك من يتفرج علينا فقط ،  فلم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل على العكس كل عام في النازل أكثر ! ( الشيخ الشعراوي وفتاوى العصر 1991) وفي إحدى الإعلانات التي نشرتها الشركة العامة للدواجن عام 1977 مؤيدة فيه توجه السادات لصناعة السلام افتتحته بآية وإن جنحوا للسلم فاجنح لهم، رغم أن المنشورات في المرحلة السابقة للسلام كانت تعنون بـ وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة .               هذه  التغيرات أوصلتنا إلى تجاهل مطلق للشعب الفلسطيني ومعاناته من خلال تجريد القضية إلى عناوين  عامة كالصراع الديني أو الصراع الدولي .

فلسطين ككذبة

وهنا نفهم  رعب دريدا، وكيف تلاعب الكذب السياسي بحقيقة القضية الفلسطينية ،  فقد تم إعطاء  مشكلة فلسطين عناوين  كاذبة لكنها رسمية وعلى مستوى الدولة وعملت قنوات الدولة على تثبيتها وإيجاد الحلول لهذه العناوين غير الحقيقية ، إن مشكلة فلسطين الحقيقية والصادقة هي أنها قضية تحرر وطني طالت أكثر مماينبغي لأسباب معروفة وواضحة ، أو كما يقول عزمي بشارة بأن علينا أن ننظر للقضية الفلسطينية خارج سياق التقدمية والرجعية باعتبارها قضية عدالة فقط .
إن الرعب الحقيقي هو من القادم فهذه الكذبات تم إطلاقها واعتمادها وتسويقها في الوقت الذي مازال الجيل الذي هجر من دياره حياً، الرعب فعلاً من الكذبات القادمة التي قد تقال للجيل العربي القادم  والتي قد تصل إلى الاعتذار واعتبار الشهداء الذين سقطوا مجرمي حرب ، لكن رغم كل هذا الكذب والخطاب الرسمي الذي يتبناه، إلا أن تجربة التحرر الوطني في العالم العربي علمتنا أن هؤلاء الكذبة كانوا موجودين دائماً كضرورة طفيلية يسقيها المستعمر وربما أخروا  نيل الإستقلال أو كانوا سبباً في امتداد الاستعمار لعدة أعوام أخرى إلا أنهم في النهاية سينسوا وسيكون التاريخ أحياناً شحيحاً حتى في تذكر أسمائهم.