Sunday, September 25, 2016

خواطر حول التمدن والمدينة

خواطر حول التمدن والمدينة

 
  صورة جوية لأحياء شرق جدة – الشرق الأوسط (الأحـد 27 شـوال 1435 هـ 24 اغسطس 2014 العدد 15035)

ولاء عبد الله، مراجعة مي عبد الوهاب

تقودُ  سيارتك – لأنك لن تستطيع التجول مشيًا في مدينةٍ كجدة- في رحلة إلى شاطئ هذه المدينة، و تقابلك الحواجز واحدًا تلو الآخر، تحجب عنك بحرها، و تتساءل، من بين ثلاثة ملايين و نصف (1) يسكنون هذه المدينة المكتظة، كم ميلًا من الشاطئ تم احتكاره لشخوص معينة، و كم ميلا تُرك فَضْلةً للبقيّة. و إذا قُدِّر عليك أن تقطع المدينة عرضًا، فإن ذلك أشبه بمخاض عسير مقارنة بقطعها طوليا نحو الشمال. في الأولى تذهب من براحة الشوارع و نظامها (والذي يعكس الطبقة الأكثر حظًا في غرب/شمال المدينة) إلى شوارعَ ضيقة الحدود و مباني متراكمة القبح(2). أنت هنا تسير من شارع إلى آخر، من الغرب إلى الشرق، ولكنك أيضا تسير من طبقة إلى أخرى، من امتيازات إلى أخرى أقل، و في كل شارعٍ تقطعه يظهر لك جليًا الفرق بين وجهتك التي جئت منها و التي أنت ذاهبٌ إليها. قد تستقر بضع دقائق في أحد ميادين المدينة، و لو كنت من سكانها أو سبق لك زيارتها، فإنك تعلم جيدًا أن القيادة عبر الميدان صراع، و ربما هي فرصة جيدة لأن تتخيل هذا الصراع على أنه صراعُ من أجل الحياة، و من أجل حقٍ لك و لغيرك في المدينة. تصل إلى منزلك، و نعتذر إن كان منزلك منفيا في أطراف المناطق التي لا تبدو لصاحب القرار أهميةَ تطويرها كما يجب، و في تهميشها تهميش صريح لسكانها بالضرورة. على كلٍ، تصل منزلك الذي لا تفكر أن تمتلكه يومًا، فما تكسبه خلال الشهر بالكاد يمكّنك من البقاء كبضاعة مرغوبة في سوق العمل، قادرٍ على الانتقال من منزلك جنوبا –مثلا- إلى ذلك البرج الغربي المطلّ على بحرٍ، ليسَ لك. 
من الأسهل أن يلمس أحدنا مظاهر تسلط النظام العالمي على حياتنا من خلال العيش في مدينة أكثر من عيشِه "حرًا" في ريف معزول، حيث نشعر أحيانا أننا داخل مصنع ضخم، كلنا جزء منه، لكننا مغتربون عما نصنعه وعن انفسنا داخله. كما نشعر بولادة لحظة اتصال فريدة بيننا و بين العالم فور خروجنا من دائرته، متسائلين عن سبب انفصالنا عن ذاتنا و محيطنا أثناء مزاولتنا حياتنا اليومية. ذلك يثير بعض التساؤلات و الأفكار لدينا نحن، سكان المدن، و المتأملين في حالها، ما هي المدينة؟ من الذي يملك المدينة؟ هل كان يمكن أن تكون مدننا بشكل آخر؟ كيف تصمد المدينة أمام التغييرات التاريخية الضرورية، وهل تصمد أم تزول؟  هذا المقال البسيط هو مجرد استعراض لبعض الخواطر حول المدينة، و محاولة لفهم التساؤلات الضرورية في عصرنا الحالي، عصر المدينة باعتبارها "آلة الحداثة و بطلها"(3).

المدينة، التمدن، التحضر

ما هي المدينة؟ جغرافيًا هناك معايير للمدينة كعدد السكان و الكثافة السكانية، و في الدراسة الحضرية و علم الانسان تؤخذ الخدمات و شكل الحياة بعين الاعتبار. و ما يهمنا هنا من هذه المعايير هو كون المدينة تخضع لنظام إداري يتبع بشكل مباشر لنظام الدولة، بخلاف الأرياف أو القرى التي تخضع للأعراف و حكم شيخ القبيلة –دون الخروج عن إطار الدولة بطبيعة الحال-. كما تهمنا تركيبة السكان ضمن تخطيط المدينة بمراكزها الحيوية و شبكة النقل، كونها من أهم العوامل التي ترسم الاختلافَ بين مدينة و أخرى. في واقع المدينة، نجد عددًا أكبر من الخلفيات الثقافية والاقتصادية والتي تتقاطع داخل المنظومة الحضرية، يفوق عددُ الأوجه الغريبة التي نراها تلك التي نألفها، هذا النمط من الحياة الاجتماعية متفرد بالمدينة. و مع التوسع الحضري أصبحت للمدن عدة مستويات من حيث الحجم، و ترتيبها من الأصغر للأكبر كما يلي: 1- المدينة (300 ألف- مليون نسمة). 2- المدينة الكبيرة - Metropolis (مليون - 3 مليون نسمة). 3- مجموعة الكبرى، أو التجمع السكاني المركب - Conurbation (إلى 10 مليون). و أخيرا، التكتل السكاني، أو المدينة الضخمة- Megalopolis
(10 ملايين فأكثر)، و التي تنتج عن توسع عدة مدن كبرى حتى تتصل ببعضها و تشكل تجمع حضري واحد معقد (4)، كالذي يمتد من بوسطن شمالا مرورا بنيويورك إلى العاصمة واشنطن، و هو تجمع يحتضن حوالي 44 مليون نسمة (5). بالإضافة للتنوع في حجمها، فهناك تنوع في تخطيط المدينة وتضاريسها، فبعض المدن بُنيت على أنقاض الطبيعة و خُططت بالمسطرة لتضمن شكل حياة مثالي، و بعضها كان له تمدد أكثر عفوية كعاصمة المكسيك، التي نرى فيها المنازل على سفوح الجبال. المدينة الحديثة تبدو و كأنها تتحرج من وجود عشوائياتٍ تكسرُ ذلك النَسق الحديث المتماشي مع ألَق الحضارة، و لكنها في نفس الوقت تستغل تلك العشوائيات حتى آخر رمق. في عصرنا الحالي، لم يعد الامتزاج مع الطبيعة طبيعيا، بل أصبح الطبيعي أن نخلق طبيعة متماشية مع النمط الإنتاجي المهيمن. يجب أن تكون المدينة مصممة فقط لخدمة هذا النمط، وكما ذكرنا سابقا، أن تكون مصنعا، لذا نجد من انفسنا نحن و مدننا – إن كانت مدننا- أدوات لخدمة النظام و مسيريه. ونحن نقصد بالنظام هنا، الرأسمالية بوجهها النيوليبرالي، التي ما فتئت تكسر كل الحواجز أمام تمددها بكل شكل ممكن. وبالرغم من أن المدينة تتعدى الوصف الجغرافي-الاجتماعي إلى كونها فكرة وجدانية، ورمزا فريدا للحضارة ذو بصمة على الأدب والشعر، إلا أننا نرى تراجعا لهذه الفكرة في حياتنا. ومع العولمة، برزت فكرة "المدينة العالمية" كما تحدثت عنها ساسكيا ساسن(6) في كتابها "The Global City". أهم المدن عالمية في عصرنا الحالي، نيويورك، لندن وطوكيو، متبوعة بهونغ كونغ وشيكاغو وغيرها، وهي مدن أعيد تشكيلها حسب تفاعلها مع الاقتصاد العالمي وتصييرها جزءا منه. حين نقارن بين نسبة السكان الأجانب بين طوكيو ولندن، فإن الفارق كبير جدا، فأكثر من 50% من سكان لندن جاؤوا من بلدان أخرى، بينما 97% من سكان طوكيو يابانيون (7). لذا فإن حديثنا عن مدينة عالمية لا يعني بالضرورة احتضان تلك المدينة لبشر من أصقاع الأرض، بل هو ببساطة يعني أن رؤوس الأموال تتهافت إليها من كافة مراكز الأرض الاقتصادية. ومن  هذه النقطة علينا أن نضع في الحسبان، أننا حين نتحدث عن المدينة، فإن الانسان ليس المعيار، بل رأس المال.

وعلى ذكرِ الانسان، ودورِه المنشود في بناء حضارات يخلّدها التاريخ، يأتي السؤال، تمدن أم تحضر؟ وما  هي معايير التحضر؟ أي المصطلحين أصلح للاستخدام في سياق استعراض أفكارٍ حول ماهية المدينة. التمدن يعني توسع المدن جراء حركة الانتقال من الأرياف إلى المدن، أما التحضر فيعكس نوعا من الثقافة المتقدمة والمتجاوزة  لأساليب العيش البدائية. و حيث أن المجتمعات الحضرية تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها كان من الضروري دراسة موضوع التحضر اجتماعيًا و ليس فقط جغرافيا و معماريا، و هو الآن حقل علمي مشترك بين علم الانسان، الهندسة المعمارية و علم الاجتماع. في وصفٍ اجتماعي، يذكر لويس ويرث أن النظام الحضَري هو أسلوب حياة يتمتع بصفات خاصة منها تباين السكان في خلفياتهم العرقية والثقافية، التخصص في العمل و الوظائف، تنميط السلوك العام و توحيده، وجود نوع من غياب الهوية الشخصية و سريتها (8). اعتبار التحضر أسلوب حياة يَخلق لنا مساحة للتحكم فيه أو الخروج عليه، و لكن طالما كانت هذه الأنماط المشكلة للنظام الحضري هي ذاتها التي نتجت عن النظام الرأسمالي، فإن مهمة التغيير هنا تكتسب طابعا آخر. فالفرد بإمكانه الانسحاب من دائرة التحضر و خوض تجربة حياتية فردية، و لكن التغيير المجتمعي يتطلب مواجهة المنطومة ذاتها و استبدالها. لكن علينا ألا نقع في خطأ المساواة بين التحضر و الرأسمالية كمنطومتين و كمفهومين، و إن كانت ظروف الواقع الحالي تجعل منهما نظاما مندمجا نراه داخل إطار واحد، مما يجعل نقد أحدهما يأخذنا إلى نقد الآخر بالضرورة. و كمثال على ما تداولناه عن اختلاف النمط الحضاري بين مدينة و أخرى، نقارن بين مدينتين لا يمكن أن يوضعا في نفس القالب الحضاري، كدكّا و لندن، رغم تسجليهما تعدادًا سكانيًا متقاربًا. و لكن، هل نحن معنيون هنا بالتقدم الحضاري للمدينة؟ وهل للتقدم الحضاري للمدينة أثر في ارتباطها و استخدامها كماكينة إنتاج رأسمالي ضخمة؟ ربما دكّا لا تعتبر مركزًا حضاريًا يقارن بلندن، لكنها بالتأكيد تفرض نفسها على خريطة العالم كمصنع يصدّر الأيدي العاملة لتلك الاقتصادات المتطورة. لذا فإنه لا يجي اختزال القضية في التحضر بمفهومه الدارج، بل إن مدينة عالمية كلندن، قد تكون مثالا غير متحضرا، إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض الجوانب التي لا مجال لمناقشتها هنا. إذا، فإن مظاهر الرأسمالية تتجلى في المدن الكبرى و العالمية بشكل صارخ، و لكن هذا لا ينفي تغلغلها على كافة المستويات.

المدينة واللا مساواة


                                                                                            عشوائيات مومباي تحتض أبراجها 

 اللا مساواة في المدن ليست فقط نتيجة لتصيير المدينة آلة إنتاج رأسمالي، بل يتجاوز ذلك إلى جعلها مراكز جذب للاستثمارات. 
فرأس المال لا يبحث عن قرية ليستثمر فيها بل يسعى إلى توسيع نطاق المدن أكثر وأكثر مما يؤدي إلى زيادة الفجوة بين المدينة و الريف، و بشكل آخر، نرى ذلك يترجم في زيادة فجوة اللا مساواة. و لكن كيف يحدث ذلك؟ في كتابه "The Neoliberal City" يشرح ديفد هارفي(9) كيف أن بناء المدن في أساسه ما هو إلا وسيلة لاستيعاب فائض رؤوس الأموال و فائض العمالة التي تتسبب بطالتها في مشاكل اقتصادية و سياسية هي مصدر قلق للسلطة، و يوضح أن معظم مشاريع إعادة بناء المدن الضخمة لم تتعدى كونها محاولة لإنجاح هذا الاستيعاب. بناء مدينة تحت ضرورة تشغيل الفائض يعني بناءها بشكل يدعم استمرار الفائدة التي تعود على مشغليه، و ليس بالضرورة بشكل يدعم الحياة الاجتماعية و البيئية. من ذلك هدم العشوائيات و تهجير سكانها، طمس التضاريس الطبيعية و التعدي عليها، إهمال احتياجات المجموعات المختلفة المهمشة و الاهتمام فقط بما يجعل المدينة جاذبة اقتصاديا تحت غطاء السياحة وثقافة الاستثمار. ذلك يؤخذنا إلى فكرة تسليع المدينة، حيث يتم تسويق المدينة لجذب السياح و الأموال و خلق نوع من الصورة و القيمة السوقية لها هي أشبه بماركة أو براند - .تظهر الإحصاءات أن 10% من سكان العالم يقطنون في قائمة أفضل 100 مدينة، بينما 76% من قيمة كامل الاستثمارات العقارية في العالم منحصر في قائمة المئة مدينة ذاتها. بمعنى أن تسويق هذه المدن كوجهات استثمارية يجعلها تستحوذ على ثلاث أرباع قيمة الاستثمارات في العالم أجمع (10) الكثير من تلك العقارات تظل خالية بالسنين و مهملة مشكّلة مساحة مهدرة غالبا في مواقع حيوية و هامة، كان يمكن استغلالها لصالح أهل المدينة. و نضرب مثال من واقعنا العربي الخليجي مدن كدبي و الدوحة مؤخرا، و التي تقدم لنا كمدن الحلم التي تحذو حذوَ سابقاتها من المدن العالمية دون تشكيل هوية مستقلة بها، و في الواقع أنها مدن هشة خالية من أي ثقافة حقيقية بل إنها تنتهك قيم الإنسان الحقيقية. و نلحظ أن ازدهار تلك المدن و تحولها إلى مراكز اقتصاد عالمية، ينطلي على نسب لا مساواة كارثية هي في طريقها للتضخم. فعلى سبيل المثال، متوسط دخل 5% من سكان نيويورك يشكّل 88 ضعف لما يكسبه الذين يشكلون 20% من سكان المدينة، وعدد كبير من المطحونون لا يكسب أكثر من 10 ألاف دولار سنويا، و هذه الأرقام تنطلي على لا مساواة عرقية أيضا(11). نرى هذه المستويات المفجعة تتمثل في المدن التي ترسم وجه عالمنا الحالي و ليس في مكان آخر. يصف ديفيد هارفي شكل الحياة في مدينة نيويورك –وهو من سكانها-، مركز الرأسمالية العالمية في مشهدٍ يلخص شكل الحياة في مدينة قد لا تبدو بائسة من الخارج: في السادسة و النصف صباحا تكتظ محطة المترو بأولئك القادمون من الضواحي المحيطة بنيويورك، و هم غالبا من الأقليات العرقية، ليوقظوا المدينة و يحضروا القهوة لأصحاب الياقات البيضاء القادمون من الحي المقابل للبرج القابعة فيه مكاتبهم. أولئك الذي يستقلون مترو السادسة صباحا يقطنون فيما ما يمسى بدويلة صغيرة داخل المدينة تحت ظروف مختلفةٍ عما هي عليه بقية المناطق الكثر في ذات المدينة. و مع تصاعد وتيرة الإنتاج، تتسارع خطوات التوسع الحضري، ففي الصين، ظهرت عشرات المدن من العدم، و بعد إحياء تلك المدن بالجامعات و المراكز الجاذبة نجح بعضها في جذب السكان، و البعض الآخر كان تجربة حضرية فاشلة، لقبت بمدن الأشباح. فضلا عن نشوء المدن من العدم، نرى مدنا تغيرت تضاريسها كليا، كما في مومباي المتناقضة، تولد جادة أعمال واحدة تلو الأخرى من قلب العشوائيات في منظر لا تصفه الكلمات. و إذا كان فائض رأس المال المحلي يتحد مع فائض العمالة لإعادة شكل مدينةٍ ما، فإنه و مع كسر كل الحواجز أمام رأس المال، يسافر الفائض من موطنه إلى حيث أفضل فرصة استثمارية حول العالم، ليستمر في نسخ النموذج إياه في كل بقعة ممكنة.

لمدينة أفضل

لن نكون حالمين و نرشح أن الطريق لمدينة أفضل هو اقتلاع النيوليبرالية التي تسلم الخيط والمخيط للأقلية المتحكمة اقتصاديا و سياسيا، و التي تدفع بالمشاريع الحضرية لتلبي أولوياتها. ليس لأن النيوليبرالية هي الشماعة المثالية لكل ما نعانيه بهذا الخصوص، و لكن أيضا لأن وجود سلطة من نوع ما –أيا كان- يعني استحواذها على مراكز التغيير الحساسة كالمدن. هناك لمحات يمكننا تداولها و العمل عليها حتى و إن كنا داخل هذا النظام، قد تجعل من تجربة الاغتراب في المدينة أقل إيلاما. المعماريون هنا عليهم عبء كبير لفهم الطبيعة الاجتماعية للمدينة التي يصنعونها، و بيدهم تقديم نمط جديد يدعم المهمشين. يجادل ريتشارد سينيت (12) أن الشكل المادي للمدينة يلعب دورا جوهريا في العلاقات الاجتماعية، و يرشح ثلاثة حلول لتحسين التفاعل الاجتماعي في المدن الحديثة، أولها الحد من النطاق الذي كلما زاد كلما ضعفت التركيبة الاجتماعية. توسيع النطاق قد يتعدى إضعاف الصلات الاجتماعية إلى تدمير حقيقي للمجتمعات الصغيرة داخل المدينة، وهو الذي يفقد المدينة جزءا من روحها و هويتها إضافة إلى كونه أحد عوامل تفشي الجريمة. ثاني الحلول المقترحة هو التغلب على جمود المدينة عن طريق جعلها أكثر استجابة لمتطلبات الفرد و المجتمع عن طريق تبنيها لنظام مفتوح، لا تكون فيه المساحات مقيدة بوظائف محددة بل قابلة للتغير حسب الضرورة. ثالثا، تدعيم دور المساحات العامة في تغيير الحياة الاجتماعية في مدينة ما. مثال على ذلك، خطورة اعتبار الوسط هو المركز، و أن الأطراف لا حاجة للاهتمام بها، حيث يجعلهم ذلك فيما هو أشبه بتمييز اقتصادي و عزلة سياسية. يمكن للمعماريين تخطيط مدن حيث تكون أطرافها هي مراكز متعددة، بخطوط متشابكة تربط كل الجهات ببعضها و تشعر المتنقلين أنهم حين يذهبون من منطقة إلى أخرى داخل المدينة، إنما يسيرون على نفس المستوى، و ليس كمن يسير من غرب جدة إلى شرقها، رغم أن جدة لا وسط مركزي لها. 
و أخيرا، لا تخلو أفكارنا حول المدينة من الكثير من التقدير و الوجدانية، فالمدينة هي ميادين الثورة، هي مراكز التغيير و التأثير، هي ما يدفع بالإنسان إلى خلق و ابتكار صلات مشتركة باستمرار، حتى لا تتلاشى حياته وسط الاغتراب القاتل بينه و بين عمله، و بين من حوله، حتى و إن غالبته رغبته في الشعور بالانتماء و تشكيل مجتمعات صغيرة ذات روابط مشتركة كرابطة العرق مثلا، فإن خوض غمار الحياة الحضرية سينتهي به المطاف في مواجهة مع الآخر الغريب. المدينة تشعرنا بألّا مستحيل، و بأننا في لحظة خارجة عن المألوف، و خارجة عن هذا النظام، يمكننا أن نمتلكها. في حركة الخامس عشر من مايو التي اندلعت في برشلونة عام 2011، تظاهر ملايين الأسبان ضد سياسات التقشف، ضد الحكومة و البنوك. أبَوا أن يُطرَدوا من مدينتهم جراء أزمة السكن و سياسات التقشف الضارية، و قد امتدت الاحتجاجات إلى عدة مدن، فكانت الثورة. كان من انتصارات حركة 15 مايو، عودة إدارة البلديات إلى مسؤولين منتخبين من الشعب، بعد أن كان العملية لصالح الرأسمالي، مما يعني رجوح كفة المواطن و اتخاذ خطوات تخدم مصالحه أكثر من السابق(13). الأمثلة على هذا الدور الذي تلعبه المدينة كملعب سياسي لا حصر لها، علينا أن نفكر في المدينة –رغم سوداوية الصورة التي يرشحها لنا الخطاب التمديني الحديث- على أنها موقع استراتيجي لقيادة حركات التغيير و التأثير السياسي، و أن نستغل ذلك في نقد المدينة نفسها، و نقد من يسيرها، و مقاومة النظام الذي يصيَرها مسرحا لا نلعب فيه إلا دور المشاهد على أكثر تقدير، لنستردها إلينا و نصنع مسرحية تليق بانتصارنا.
- - - - - - -
هوامش
*كل الترجمات من موقع المعاني
(1) مصلحة الإحصاءات العامة
(2) تخطيط مدينة جدة أشبه بالشبكة، 8 خطوط طولية رئيسية و الكثير من الخطوط العرضية، أول خطين طوليين من جهة الغرب تضم الطبقة الأكثر حظا بوضوح، و بالأخص الشمال الغربي، بالإضافة إلى محطات التسوق و الترفيه الراقية. المدينة تتمدد طوليا بشكل أساسي و مؤخرا نشهد توسع شمال-شرقي أيضا، لذا جاء التصوير بهذا الشكل.
 (3) كما وصفها ميشيال دي سارتو في كتابه "ابتكار الحياة اليومية"، و يضيف: "لغة السلطة "تتمدن" و لكن الحاضرة هي عرضة لتناقضات تتوازن و تأتلف خارج السلطة البانوبسية. تصبح المدينة المبحث المهيمن في الأسطوريات السياسية، و لم تعد حقل العمليات المبرمجَة و المراقَبة. تحت الخطابات التي تؤدلجها، تتكاثر حِيَل و مناورات سلطات بدون هويّة جليَّة و بدون حميّة مُدرَكة و بدون وضوح عقلاني، أي تستحيل إدارتها". ابتكار الحياة اليومية، ترجمة محمد شوقي الزين، الطبعة الأولى، ص 186.
(4) هرم المستوطنات
(5) مراجعة هذا الفيديو من أكاديمية خان
(6) ساسكيا ساسن-Sakia Sassen. بروفيسورة علم الاجتماع بجامعة كولومبيا و المهتمة بمواضيع العولمة.
(7) الأرقام من ويكيبيديا
 (8) لويس ويرث- Louis Writh. عالم اجتماع أمريكي و عضو مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع.
Urbanism as A Way of Life. The American Journal of Sociology, Vol. 44, No. 1. (Jul., 1938)
(9) ديفد هارفي – أبرز المنظرين الماركسيين المعاصرين. أكاديمي بريطاني، يعمل حاليا  كمحاضر في الأنثروبولوجيا بمركز الدراسات العليا لجامعة مدينة نيويورك. درس الانثروبولوجيا و الجغرافيا. له حلقة لتدارس كتاب ماركس "رأس المال" مستمرة على مدى 30 عاما بالإضافة إلى الكثير من المؤلفات في نقد الرأسمالية و حول المدينة.
(10) إحصاءات تم استعراضها في مؤتمر "عصر الحضارة" المقام هذا العام في مدينة البندقية و بتنظيم من 
LSE Cities التابع لكلية لندن للاقتصاد و العلوم السياسية:  https://www.youtube.com/watch?v=2GbbYgiIh4s
(11) و يقصد بالا مساواة العرقية الاختلاف بين الامتيازات حسب العرق
(12) ريتشارد سينيت-Richard Sennet، بروفيسور علم الاجتماع بكلية لندن للاقتصاد و العلوم السياسة جامعة نيويورك. كرس جزءا كبيرا من أبحاثه لدراسة الروابط الاجتماعية داخل المدينة و له عدة مؤلفات حول ذلك. و مؤخرا يركز على فكرة "النظام المفتوح" كنموذج حضري مستقبلي. https://www.richardsennett.com/site/senn/UploadedResources/The%20Open%20City.pdf
 (13) عمدة مدينة برشلونة تحكي القصة هنا