Sunday, July 31, 2016

هل من عودة لعلم الاقتصاد إلى حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية ؟!



مي عبد الوهاب، مراجعة ولاء عبد الله

تمهيد

يقول إيمانيول ديرمان*" انني افهم حدود وصف وتحليل سلوك وعلاقات البشر المعقدة والسوق عبر افتراضات بسيطة ورياضية اى حسابية وعلى الرغم من محدوديتها, يظل علم المالية أكثر موثوقية من الاقتصاد!" هكذا عبر أشهر من يلقبون بالمهندسين المالين الذي هو بالأصل عالم فيزياء اتجه إلى عالم المال وبورصة وول ستريت حتى هذا الأخير وضع ثقته بمكان آخر غير علم الاقتصاد على الرغم أن المالية جزء من المنظومة الاقتصادية الحالية. تضع الأزمات الاقتصادية العالمية الأخيرة "علم الاقتصاد" ضمن تحديات جديدة في فهم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية التي تسببت في تفاقم أعباء الحياة على أفراد المجتمع العاديين، اللذين لا يملكون سوى بيع وقتهم لأرباب العمل في سوق تحكمه قيم التبادل وتشييء الانسان لبضاعة تباع وتشترى. وبعد فشل أدوات علم الاقتصاد الحالي المهووس بالمعادلات الرياضية في توقع الأزمات الاخيرة و التعاطي معها ومثال على ذلك أزمة 2008 التي عصفت بالولايات المتحدة والعالم الغربي بشكل خاص والتي استفاد منها الأغنياء أصحاب رؤوس الأموال (ذوي النفوذ) المتحكمين بالتلاعب بالنظام المالي الغارق في المنتجات والمشتقات المالية الحديثة بأنواعها، وذلك عن طريق استئجار المدراء التنفيذين للمحافظ الاستثمارية أصحاب الخبرة الكمية والتكنوقراطية المهتمين فقط بزيادة أرباح  كبار مستثمريهم لزيادة حصصهم التعويضية على حساب المجموعات الأخرى من المجتمع كذوي الدخل المتوسط، الغارقين في دائرة الديون  للاستمرار بعجلة حياتهم. وفي ظل الانفصال المستمر لعلم الاقتصاد عن العلوم الاجتماعية  الأخرى تزداد الفجوة بين الاقتصاد كعلم وبين ما يحدث في الاقتصاد على أرض الواقع. أهم ردود الفعل تجاه الأزمات الاقتصادية الأخيرة وموقف علم الاقتصاد منها هي الحركات الطلابية التي انتشرت في أوروبا والولايات المتحدة مؤخراُ المنادية بعودة الاقتصاد إلى حقله الحقيقي "العلوم الاجتماعية" والتي بدأت بطلاب جامعة مانشستر الذين ابدوا انزعاجهم من المناهج الاقتصادية التي يهمين عليها النموذج النيو-كلاسيكي(الارثوذكس) المتمركز حول نظرية التوازن بين العرض والطلب والنماذج الإحصائية المملة التي تتجاهل العلاقات المعقدة بين طبقات المجتمع والظواهر الاجتماعية التي تحكمها متغيرات انسانية ليست محدودة بعمليات الحساب الضرب والجمع فقط!

 ظهور علم الاقتصاد

ظهر علم الاقتصاد في أوروبا "كعلم" له مناهجه وأدواته الخاصة، مستقلٌ بذاته عن العلوم الأخرى في التحليل في أواخر القرن الثامن عشر أو منتصفه. سبقت ذلك عدة "كتابات" أو محاولات كتابة اقتصادية في القرون القديمة لتفسير بعض الظواهر الاقتصادية في سياقاتها التاريخية والسياسية المحددة, فأغلب مؤروخون الاقتصاد متفقين على وجود أفكار اقتصادية أو دعوات إلى اتباع "سياسات" اقتصادية معينة ولكنها لم ترقى إلى مفهوم "العلم". من أهم مؤسسي "علم الاقتصاد" آدم سميث، صاحب كتاب "ثروة الأمم" الذي يعد أهم الكتب في التاريخ الاقتصادي، ومن بينهم أيضا وليام بتي الذي كان بالأصل عالما طبيعيا، ومن هؤلاء الرواد الأوائل لعلم الاقتصاد يأتي الفيلسوف البريطاني الشهير ديفيد هيوم وهو من أهم المساهمين في استقلال الكتابة الاقتصادية "كعلم" من العلوم. وتستمر السلسة من ريكاردو إلى مالثس إلى جون ستيوارت ميل الذي نشر كتابه المهم عام 1767م بعنوان "مبادىء الاقتصاد السياسي" . ونحن هنا لسنا بصدد الخوض في التعاريف الإجرائية لعلم الاقتصاد وذلك للتميز الجوهري بين تلك التعاريف الاختزالية للظروف التاريخية والتحيزات السياسية وبين حقيقة نشأة ما يسمى بعلم الاقتصاد الذي كانت ظروف نشأته متلازمة مع بزوغ ما يدعى " بالرأسمالية الصناعية" أو كما يفضل أن يسميها البعض بالثورة الصناعية. وكما أن لكل عصر في التاريخ تحدياته وتحيزات طبقاته المهيمنة، فنشأة علم الاقتصاد كانت نتيجة لظهور تحيزات وأيديولوجيات جديدة لدى المشتغلين بالمسائل الاقتصادية. وجاءت هذة الرؤية الجديدة بسمات خاصة في النظر للظواهر الاقتصادية وصولا إلى تأسيس العلم المختص بتفسيرها وفهمها ثم استمرت التحولات في تلك الحقبة بتطبيع "علم الاقتصاد" كما هو الآن بمختلف مدارسة وأفكاره. وعالم الاقتصاد هو في نهاية الأمر مثله كباقي العلماء من البشر لا يرى الأشياء نقية من أفكاره وتصوراته المسبقة التي تسمى في بعض الأحيان أسلوب أو نمط في التفكير قد تكون متضمنة حكما أخلاقيا أو جماليا التي إذا تراكمت كونت قيم بدورها تخلق نسقا فكريا وموقفا متكاملا من الحياة والمجتمع على حد سواء، وبذلك يطلق عليها "الأيديولوجية". ومن بين هذه الأفكار المسبقة التي تكون الأيديولوجيا في نطاق علم الاقتصاد، الميل مثلا إلى الاعتقاد بأن التدخل الحكومي سيء للاقتصاد ورفاهية الفرد، أو العكس الميل إلى أن التدخل الحكومي مهم وضروري لضمان استمرارية واستقرار الاقتصاد أو أيضا التأكيد على فكرة أن الناس بطبعهم أنانيون ولا يسعون سوى لزيادة مصلحتهم الشخصية على حساب الآخرين. والعلم الحديث لا ينفي إمكانية التحيز بل يقرها في كثير من طرق البحث العلمي ولكن ما يدعو إليه أو ما يطلبه من الباحث دائما هو ألا يجعل تحيزه يقوده إلى التأثير على نتيجة سير البحث التي يعلنها و إن كان هذا الأخير ليس سهلا. و بالرغم من إمكانية توفر هذة الخاصية في حكام مباريات كرة القدم – على سبيل المثال- كنظام مغلق أو في العلوم الطبيعية، فإن توفره في غاية الصعوبة عند التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية والإنسانية.


تحيز علم الاقتصاد وهيمنة التوجه الواحد

 لم يكن من المستغرب في عصر يسوده الانبهار بالثورة العلمية التي كشفت خبايا العالم الطبيعي, والثقة الكبيرة بقدرة العلم على توقع المستقبل ومن ثم قدرة الانسان على زيادة سيطرته على الطبيعة لخدمة مصالحه, أن تتجه أذهان المهتمين بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،  إلى استخدام تلك النماذج والمناهج الطبيعية لكي تطبق على المجتمع والسياسة والاقتصاد. وكان أوائل من حاول ذلك هو الفيلسوف توماس هوبز، وفي النقد الاجتماعي جان جاك رورسو ومونتسكيو.
كانت هناك ثلاث عوامل تاريخية رئيسية ساهمت في تكوين تحيزات مختلفة " لعلم الاقتصاد" أولها نمو العلوم الطبيعية، ونمو الصناعة وبالتالي نمو الطبقة الوسطى. واستمرت عملية التراكم العلمي التي أدت إلى تقدم تكنولوجي زاد من معدلات الإنتاج الصناعي، وظهرت تبعا لذلك مشاكل جديدة حفزت على زيادة الطلب على التعليم العلمي والصناعي، وطرحت اسئلة جديدة تحت علم الاقتصاد، ما الثروة؟ ما عناصرها؟ كيف تتكون؟ المنافسة الكاملة أم الاحتكار؟ أسئلة لم تكن لتطرح قبل ظهور نمط الانتاج الرأسمالي، وفي ظل هذا المناخ الذي يقدس العقل في كل مناحي الحياة أتاحت الفرصة ظهور مجتمع صناعي طبقي، تسوده قيم الطبقة الصاعدة أو بشكل اخر تزداد قيم هذه الطبقة قوة ونفوذا في كل يوم وتخلق تطلعات معينة فيما يتعلق بمستقبلها ومصالحها الاقتصادية، وهذا الصعود بطبيعة الحال ادى الى صعود اجتماعي وسياسي. نستطيع فهم ظروف نشأة "علم الاقتصاد" في فترة تاريخية محددة التي سبق ذكرها والتي تحمل سمات اقتصادية واجتماعية وثقافية خاصة جدا ومن الصعب تخيل تكرار هذة الظروف في حقب تاريخية اخرى او بلاد غير اوروبية يحكمها نمط انتاج مختلف عن النموذج الرأسمالي للانتاج. ومن المهم أيضا ملاحظة أن هذة السمات قد لاتكون لها علاقة بالعلم وموضوعيته وحياده بل من الممكن جدا أن تكون سمات تعكس تحيزات وأهواء مجتمع أو طبقة معينة ولا يخفى على دارس الاقتصاد في عصرنا الان ان يلاحظ استمرارية وانعكاس تلك السمات المهيمنة على مناهج "علم الاقتصاد" والتي عادة ما تسمى بمنهج الاقتصاد الأرثوذوكسي أي مدرسة الاقتصاد النيوكلاسيك (Neo-Classical) المعتمد على افتراض العقلانية في دراسة النشاط الاقتصادي ولا يقر بان هناك حالات كثيرة قد تكون"لاعقلانية" وخاصة تلك التي تحكم تصرفات المستهلكين وقراراتهم المتعلقة بنوع البضائع أو الخدمات التي يقومون بشرائها وغالبا لا تتوافق مع القانون القائل " بتعظيم العائد الصافي"، وهنا يداهمنا السؤال لماذا تركيز الاقتصادي الارثوذوكسي على بحث الجانب "العقلاني" للنشاط الاقتصادي أليس من الممكن ان يكون نتيجة تحيز أو أيديولوجية مسبقة أو أيديولوجية مهيمنة؟!

المدرسة التعددية(Pluralism or Heterodox Economics) كنوع من المقاومة وردة الفعل

بعد الأزمة الاقتصادية 2008 وأزمة ديون اليونان الأخيرة ظهرت موجات وحركات جديدة طلابية بشكل خاص وبين أوساط النشطاء والأكاديمين بشكل عام في أوروبا  والولايات المتحدة تنادي بتغير مناهج وطرق تدريس الاقتصاد التي باتت مستعبدة من قبل النموذج الرياضي وحده كما عبر عنه الاقتصادي الياباني تاكاميتسو ساوا الذي بات التشكيك في صحتها أو صلاحيتها يعد وكأنه نوع من الاعتراض على تشريع ديني ثابت لا يقبل النقد والتساؤل. ومن أبرز الامثلة لتلك الحركات مجموعة Rethinking Economics  في بريطانيا ومجموعة Netzwerk Plurale Ökonomik في ألمانيا. أما في أمريكا فقد قام مجموعة من الباحثين والمهتمين بتأسيس معهد لتجديد التفكير الاقتصادي Institute for New Economic Thinking، كما قامت نتيجة لتلك الحركات المقاومة للمنهج الاقتصادي الأرثوذوكسي بعض الجامعات بتغير مناهج تدريسها مستجيبة لتلك الدعوات وإن كانت لا تزال ناقصة وذلك عن طريق اقحام المناهج التعددية، اي تدريس المدارس المختلفة للاقتصاد او ما تقع تحت مسمى هيترودوكس Heterodox Economics  الذي هو بدوره عكس التوجه الأرثوذوكسي المهيمن في التحليل الاقتصادي حيث يدرس تحت الاقتصاد الهيترودوكسي واقع الاقتصاد من زوايا مختلفة في سياق مجتمعي لا ينفصل عنه، بل يستعين بجميع التخصصات والمدارس الأخرى لفهم الظواهر الاقتصادية والأزمات ولا يختزلها في مدرسة أو  توجه واحد، ويعتبر مظلة تغطي العديد من الأنماط والمدارس شاملةً المدرسة الماركسية والنسوية والكينزية وما بعد الكينزية بالإضافة إلى المدرسة التطورية ومدرسة الاقتصاد البيئي وغيرها من المدارس الاخرى. وقد بادرت عدة جامعات في اوروبا وأمريكا* بتدريس المنهجية التعددية في الاقتصاد. ومن الملفت للنظرأن الجامعات المبادرة ليست من الجامعات المعروفة ذات الصيت الأكاديمي والتصنيف القوي، أمثال هارفارد وبرينستون أو ستنافورد وبيركيلي! وتكمن أهمية دراسة الاقتصاد عن طريق المنهجية التعددية في فتح باب رؤية واسعة تسطيع استيعاب التحيزات المختلفة وطريقة هيمنتها وسيطرتها في أطر سياسية مختلفة، حيث ستكون مقدمة لأشياء أخرى بالغة الأهمية تتجاوز دائرة القضايا الاقتصادية وليس ذلك فحسب إنما تفتح باب الأمل في تحرير "علم الاقتصاد" و أنفسنا من التبعية التي خلقها النظام الإمبيريالي الرأسمالي العالمي، وتحريره أيضا من قيود حكمته لأكثر من ثلاث قرون رغم المحاولات المقاومة, بل قد يساهم أيضا في إبراز التحيزات السياسية للدول الغربية المهيمنة ومؤسساتها على القرارات السياسية ومثال على تلك المؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيره من المركزيات التي تتحكم بمصائر أبناء الثقافات المختلفة من جميع أنحاء المعمورة ونختم بمقولة الاقتصادي الياباني تاكاميتسو ساوا " لا يمكن لقسم الاقتصاد أن يستعيد وجوده إلا إذا عمل على استعادة العلاقة مع العلوم الانسانية والاجتماعية واستخدم علم الرياضيات باعتبراه الآداة التي يجب استخدامها عند الضرورة"



مراجع وروابط مفيدة:
1.      Economics as a Social Science by Piet Keizer, Utrecht School of Economics, 2008
2.      د. جلال أمين, فلسفة علم الاقتصاد



No comments:

Post a Comment