Tuesday, December 27, 2016

مفهوم الدولة

قراءة في كتاب مفهوم الدولة
د. عبد الله العروي

قراءة ماجد العلوان, مراجعة مي عبد الوهاب


يمكن اعتبار كتاب المفكر عبدالله العروي "مفهوم الدولة" مساهمة نوعية في الفكر السياسي العربي. وتتجلى اهميته في ان المؤلف توخى تقديم نظرية الدولة عن طريق مناقشة آراء كبار المفكرين الذي تعرضوا في كتاباتهم  للدولة ومعناها ومعرفة مواطن النقص في كتاباتهم حول الدولة. إن الناتج والمحصلة النهائية لهذه المناقشة هي تكوين نظرية للدولة القائمة. إن النظرية التي يتحدث عنها العروي لها أساسان لايمكن ان توجد نظرية حول الدولة إلا بهما. الأساس الاول هو ادلوجة الدولة المتجسدة في الشرعية التي تتمتع بها بين الافراد و إجماعهم حولها. والاساس الثاني يتمحور حول اجهزة الدولة المادية ويقصد بها البيروقراطية المدنية والعسكرية. فالنظرية في نهاية المطاف هي تحليل أخلاقيات الدولة المتجسدة في الأيدولوجية (الشرعية والإجماع –العنصر المعنوي للدولة[1] وتحليل البيروقراطية المدنية والعسكرية (العنصر المادي للدولة). إن الدولة حتى يمكن وصفها بأنها قوية, فإن عنصري النظرية لابد أن يتواجدا جنبا إلى جنب. لابد أن يكون هناك إجماع بين الأفراد على شرعية الدولة القائمة. وثانيا, ينبغى أن تكون الأجهزة المادية للدولة معقلنة.[2]

الفصل الاول: نظرية الدولة الإيجابية

يتحدث هذا الفصل عن الاتجاهات الرئيسية التاريخية التي تناولت موضوع نظرية الدولة بشكل رئيسي او شكل ثانوي. ويمكن نسبة هذه الاتجاهات المختلفة الى ثلاثة مفكرين رئيسين أثروا على طريقة التفكير في مفهوم الدولة وهم على التوالي اوغسطين وكانط وهيغل. أولى هذه الاتجاهات الفكرية هي المدرسة الأوغسطينية التي تتحدث عن وجود حياة أخرى غير الحياة الدنيا التي يعيش فيها البشر, وأن السعادة الأبدية لا تتوافر إلا في تلك الحياة. وبمعنى آخر فإن هذه النظرة "توجه الدعوة إلى الوجدان الفردي لكي ينفصل عن قوانين الحياة الدنيا الخادعة العابرة ويتهيأ للحياة الآخرة."[3] إن الحياة الدنيا هي مجرد مرحلة مؤقتة ولحظة عابرة وجسر الى حياة ماورائية أبدية يجازى فيها الفرد على ما عمل من خير أو شر. وعليه فإن الدولة هي تنظيم بشري و كيان "اصطناعي" تتحدد شرعيتها او عدم شرعيتها من خلال تمكين الفرد من القيام بالأفعال التي تحقق غايته الأخروية. فإذا وفرت للفرد الوسائل والإمكانات وإزالت العقبات أمام تحقيق غايته فهي شرعية. وفي المقابل إذا هي لم توفر إمكانات أو تتيح الوسائل التي تمكن الفرد من تحقيق الغاية فهي غير شرعية وهي شر محض وتصبح طاعتها محل تساؤل. والاتجاه الثاني في  البحث عن تعريف الدولة يأتي هذه المرة من كانط ومن فلسفة الأنوار. حيث تقرر هذه النظرية  أن الفرد لديه غايات ذاتيه كالمعرفة والرفاهية والسعادة  يسعى الى تحقيقها من خلال استغلال الطبيعة المحيطة به. ويتمخض من ذلك أن الأفراد يكونون في النهاية المجتمع والذي يكون بدوره يمكن وصفه بأنه " نظام طبيعي ضروري, فهو بالتالي معقول متكامل متجانس"[4]  وينتج من ذلك أن الدولة ظاهرة ناتجة من الاجتماع الطبيعي وخاضعة لأحكامه. وبالتالي فإن على الدولة اذا أرادت أن تكون وفية لظروف نشأتها  وبالتالي شرعية فإن عليها أن تخدم المجتمع وتسهل طرق التعاقدات بين الافراد وتحميها وتوفر العلم وتجعله متاحا للجميع. ويتقلص دورها لتكون فقط معنية بالحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي. ويمكن الاستنتاج من الاتجاهين السابقين, أن الدولة لم تكن هي الموضوع الرئيسي للبحث, بل احتلت مكانة ثانوية. أي أن القيمة قد تم وضعها خارجها في الغاية الأخروية كما في النظرية الأولى أو في المنفعة المجتمعية في الاتجاه الثاني. ولذلك فإن نظرية الدولة لم تجد التربة الخصبة لكي تنمو في تلك الاتجاهين. وكردة فعل على تهميش الدولة ووضع القيمة خارجها وجعلها وسيلة, قام هيغل الفيلسوف الألماني بقلب الطاولة على مسألة وضع القيمة خارج الدولة, وقام بوضع القيمة داخلها. فأصبحت الدولة غاية في حد ذاتيه وقيمة متعاليه على الوجدان الفردي والمنفعة. ويتضح ذلك جليا من تعريف هيغل للدولة والتي هي " الفكرة الأخلاقية الموضوعية إذ تتحقق, هي الروح الأخلاقية بصفتها  إرادة جوهرية تتجلى واضحة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكر بذاتها وتنجز ما تعرف لأنها تعرفه" يسجل العروي ملاحظة مهمة بخصوص هذا التعريف الصعب فيقول " لا ينطبق التعريف على هذه الدولة أو تلك, لا اثناء التكوين ولا أثناء التطور والانهيار. إنما ينطبق على مفهوم الدولة عبر التاريخ."[5] بعبارة أخرى, إن التعريف الهيغلي للدولة مستخلص من قراءة أنماط التجمعات البشرية في التاريخ وليس شكلا واحدا من اشكال التجمعات الانسانية. غير أن هذا التعريف رغم تقدمه على الاتجاهين اللذين سبق وأن تم بحثهم, لم يسلم من النقد وخصوصا من جانب كارل ماركس.

الفصل الثاني: النظرية النقدية للدولة

يتناول هذا الفصل الانتقادات الموجهة من ماركس لهيغل بخصوص مفهومه الفلسفي عن الدولة. ويمكن تلخيص النقد الموجه لهيغل في التجريد الذي يتخذه هيغل عند الحديث عن الدولة ومفهومها. حيث إن هيغل يبدا من التعريف المجرد ثم ينتهي الى تبرير الواقع المعاش في وقته وهو النظام البروسي. حيث إن الدولة تمثل العقل في ذاته فهي دولة العقل المطلقة.  ثم هو من هذا المنطلق يبرر النظام الأرستقراطي في بروسيا. بمعنى آخر "وراء التحليل المنطقي الظاهر تكمن تجريبية تامة وواقعية فجة, لا يمكن أن تدعي بحال أنها معقولة فعلا وفلسفية حقا."[6] فمثلا هيغل يبرر وجود طبقة الموظفين العمومين بالتبرير التالي " إن أفعال الحكومات ذات طبيعة جوهرية, تنتمي إلى دائرة ما سبق تقريره حسب الجوهر, لكن ينفذها أفراد. ليس هناك تناسب بديهي تلقائي بين الأفعال الحكومية والأفراد, لأن هؤلاء ليسوا مهيأيين  منذ الولادة  للقيام بالوظيفة. لذا لا بد من امتحان يعطي الدليل على كفاءتهم. فالامتحان ضمان لقضاء حاجات الدولة وفرصة متاحة لكل مواطن لكي يلتحق بطبقة العموم."[7] إن النقطة الجوهرية والتي جعلت ماركس يتجاوز هيغل هو تبريره لوجود طبقة الملاك العقاريين البروسيين الذين لهم سيطرة فعلية على المجلس النيابي ومنها يخرج كبار القادة العسكريين واعضاء الحكومة الكبار بسبب ملكيتهم للعقار. أي أنها لاعب حيوي في الحياة السياسية للدولة ومفاصلها ولا يمكن اغفالها أو تهميشها.  ويكمن السبب في رأي هيغل لتمتع هذه الطبقة بهذا الدور الكبير في الحياة السياسية بالحقيقة التي مفادها ان هذه الطبقة عامل استقرار وثبات للحياة السياسية في بروسيا. يكمن في ان الملكية العقارية ثابتة وغير متقلبة بعكس الثروة الآتية من الصناعة أو التجارة ومن ناحية أخرى فإن نظام البكارية[8] يؤدي الى تجاوز الأخلاق الذاتية الى اخلاق موضوعية. وذلك كون نظام البكارية يضحي بالمساواة بين الورثة في وراثتهم للارض في سبيل استقرار الدولة وديموتها. و إجمالا يمكن القول بأن النفوذ الموجود لطبقة الملاك يرجع اصوله الى ارتباط الطبقة العقارية بالطبيعة أي الأرض والأصل الثاني هو تقديم الأسرة على الفرد أي نظام البكارية. ومن هذه النقطة الأخيرة يفند ماركس تبرير هيغل لقوة الطبقة العقارية ويقلبه. فيقول عن السبب الحقيقي في النفوذ يرجع إلى امتلاك العقار. إذ القوة ليست قادمة من الأسرة او نظام البكارية, بل القوة والنفوذ ينتجان من ملكية العقار وحجمه. وبناء على ما سبق فإن الدولة نتيجة للملكية الفردية للعقار. سيقوم إنجلز بدارسة للتاريخ اليوناني والروماني القديم ويتتبع أثر نشوء الدولة بظهور الملكية الخاصة وبداية اختفاء الملكية العمومية. حيث يلاحظ انجلز التغير الناشئ من ظهور الملكية الخاصة ويقول "تسرب في الدستور عنصر جديد هو الملكية الخاصة. أصبحت حقوق المواطنين وواجباتهم مقرونة بمساحة الملكية العقارية. كلما قوي نفوذ الطبقات المالكة, اضمحلت الهيئات المتولدة عن علاقات القرابة."[9]   

الفصل الثالث : نظرية الدولة

ينقلنا العروي في هذا الفصل الى المنهج الوصفي الوضعاني في بحث نظرية الدولة , ذلك المنهج الذي نشأ كردة فعل على المثالية التجريدة الهيغلية. يمكن وصف طريقة عمل هذه المنهجية كالتالي. البدء بالواقع المعاش بوصفه وصفا دقيقا ثم تبسيط هذا الواقع المعقد وتجريده وفي النهاية سحبه على الماضي. إذن هي عملية ذهنية يقوم بها الباحث  ليصل الى معنى الدولة أي الدور الذي تلعبه في المجتمع الانساني. ونقدم مثالا على استخدام المنهج من انجلز, حيث بدأ من واقع الدولة التي يعيش فيها من جيش وإدارة وجميع  مكونات الدولة وتم تخليصهم من تعقيداتهم. ومن ثم بناء نموذج ذهني مبسط خالي من التعقيدات ومجرد وتطبيقه على التنظيمات السياسية في الماضي. وبناء عليه يستنتج انجلز في نهاية العملية الذهنية ان الدولة تخدم جماعة مخصوصة من السكان. وبعبارة انجلز يقول "إن الدولة التمثيلية الحديثة هي آلية يستغل بها الرأسمالي العمال الأجراء."[10] أي أن دور الدولة وأدواتها يكمن في خدمة ملاك وسائل الانتاج دون سواهم من الطبقات.

وطرح العروي أداة منهجية تعتمد على المنهج الوضعاني وتسمى نموذج  الدولة الحديثة كأداة علمية للبحث في مفهوم الدولة. وخير من استعمل هذا النموذج عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر. قام فيبر باختيار دول تاريخية واختيار اهم العناصر او الصفات التي تميز نموذج عن اخر. بعبارة اخرى يعتمد هذا النهج على اختيار دولتين تاريخيتين وجعل أحدهما دولة ايجابية والاخرى سلبية. وبعبارة العروي "تتطلب الطريقة المذكورة مقابلة حالتين: الأولى إيجابية والثانية سلبية. إذا كنا نتوخى فرز ظاهرة اجتماعية لنركب نموذجها الذهني, فلا بد من انتقاء مثلا تاريخيا يتضمنها ومثلا آخر يجهلها. فنتوصل إلى إظهار آثار وجودها في الأول وآثار غيابها في الثاني."[11] و قد استعمل المؤرخون النموذج السابق للمقابلة بين الدولة النابلويونية كحالة إيجابية في مقابل الملكيات المطلقة في اوروبا كبروسيا والنمسا وإيطاليا. فمميزات الحالة الاولى تقوم على التوحيد, التجريد, النظام, الفعالية. وفي المقابل فإن الظواهر التي تسود النموذج السلبي هي التعدد، التجريبية، العادات. إن هذه السمات او الخصائص التي تميز النموذجين وتفصلهما عن بعضهما البعض هي مستقاه من دراسة للأجهزة التي تكون الدولة في النموذجين. وبالتحديد فإن المقابلة تمت عندما تم بحث أربعة جوانب أساسية ضمن الدولة وهي: الجيش, الإدارة, الاقتصاد, التعليم. فمثلا قام نابليون بتوحيد لغة الدراسة في كافة أرجاء الدولة وجعله تحت سلطة الدولة بدلا من سلطة الكنسية. وهذه الخاصية مفقودة في دول الملكيات المطلقة, حيث كان التعليم من مسؤوليات الكنائس وتحت سلطتها وتخضع المناهج الدراسية لوجهة نظرها الدينية. إن فيبر بعد أن قام بهذه العملية الذهنية يستنتج ان وراء تلك الخصائص الايجابية للدولة الحديثة المتجسدة في مثال الدولة النابوليونية مبدأ او سبب أدى إلى ظهورها. إن المبدأ الذي يتكلم عنه فيبر هو منطق العقلانية. إن العقلانية بحسب التعريف هي "عملية تطبيق العقل المجرد الرياضي على مظاهر الحياة بهدف توفير الجهد ورفع الانتاج المادي."[12] إن العقلانية بعبارة أخرى تقوم على تحكيم العقل في جميع مظاهر الحياة بدلا من العادات او الدين او الهوى. لكن لا يتفق الجميع مع فيبر بخصوص إرجاع مظاهر الدولة الحديثة الى منطق العقلانية. فهناك الماركسيين والاقتصاديين الذي يربطون ظهور الدولة الحديثة بممارسات الطبقة الوسطى الأوربية. حيث ساهم تغلل أبناء هذه الطبقة في البيروقراطية والجيش والقضاء والاقتصاد الى نقل وتبني الممارسات التجارية التي تعتمد التنظيم, المحاسبة, التوفير, الربح, التعميم. وهكذا انتشرت الممارسات العقلانية في مفاصل الدولة القديمة والتي استحالت الى دولة حديثة بسبب وجود تيار كبير يدعمها ويؤيدها ويجعل من الممارسات العقلانية هي الغالب والمسيطر.

إن العروي في نهاية هذا الفصل يقدم تعريفا للدولة يجمع بين المراحل الثلاثة ابتداء من هيغل ومرورا بماركس وانتهاء بفيبر. حيث تعرف الدولة بأنها "مجموعة أدوات تنظيمية وقمعية –جيش,شرطة, قضاء, إدارة- وميزة تلك الأدوات هي البيروقراطية,  استعمال العقل الحسابي لترتيب العمل الجماعي بهدف اقتصاد الوقت والجهد."[13] إن هذا التعريف جامع وخلاصة لما قدمه أولئك المفكرين حول ماهية الدولة.

الفصل الرابع: الدولة التقليدية في الوطن العربي.

يكرس المؤلف هذا الفصل للحديث عن واقع الدولة التاريخية الإسلامية ومفهومها. بداية يعترف العروي بصعوبة معرفة واقع تلك الدولة التاريخية لقلة المصادر المتوافرة. إلا ان هذا العائق لا يمنعه من المحاولة معتمدا في ذلك على ماكتبه ابن خلدون كونه صاحب منهج واقعي (مادي) وبعيد عن الطوباوية. إن الواقع الذي كانت تعيش في ظله الدولة الإسلامية بغض النظر عن الخلفية الثقافية للطبقة الحاكمة واقع قهر وظلم واستبداد. إن تلك الدولة حتى وإن اطلقت على نفسها أنها إسلامية ليست إلا مجرد دولة تخدم اهداف ذاتية كالتوسع و السيطرة على أراض أكبر ومراكمة الثروة. إن ذلك الواقع المرير ادى إلى نشوء أفكار مثالية حول ما يجب ان تكون عليه الدولة. ولعل أبرز هذه الطوباويات الاكثر شعبية والتي لازالت رائجة وشعبية في المخيال المسلم هي فكرة دولة الخلافة. تلك الدولة لم تتحقق إلا مرة واحدة في التاريخ الإسلامي وهو عصر النبي وعصر الثلاثة الخلفاء الراشدون أبي بكر وعمر وعثمان. أبرز مزية في تلك دولة الخلافة ان المحرك الأساسي للفرد هو الدين وهو الذي يضبط أفعاله بدون سلطان خارجي. إنها دولة العدل والسلام والإيثار بعكس الدولة التي عايشها المسلمون بعد عصر دولة الخلافة القصير. يختتم العروي الفصل بالحديث عن عبارة شهيرة جدا مستخدمة من قبل جماعات الاسلام السياسي وهي أن الاسلام دين ودولة. حيث يقول العروي في هذا الخصوص "إن العبارة –الإسلام دين ودولة- وصف للواقع القائم منذ قرون, أي لحكم سلطاني مطلق, يحافظ لأسباب سياسية محضة, على قواعد الشرع."[14] إن المعنى الحقيقي للعبارة هو أن الإسلام كعقيدة والدولة كتنظيم سياسي قد تساكنا ولم يندمجا في الدولة الإسلامية التاريخية. إن تلك العبارة هي في نهاية التحليل وصف لواقع الوضع الذي وصلت إليه السلطنة الإسلامية حيث يستخدم الخلفاء والأمراء تطبيق مظاهر الشرع للحصول على رضاء الفقهاء وفي نفس الوقت يكمن هدف الدولة في خدمة مصلحة العصبية الحاكمة و وزيادة ثرواتها.

الفصل الخامس : دولة التنظيمات

يتكلم هذا الفصل عن تجربة إصلاح الدول الحديثة الاسلامية كالسلطنة العثمانية والدولة المصرية والتونسية والمغربية وتأثير تلك الاصلاحات على الفرد. إن الاصلاحات التي تم القيام بها كانت تستهدف في الأساس تقوية السلطة وتقوية الحاكم ولم يكن المجتمع ومصلحته إلا هدفا تبعيا.  ولا غرابة في ذلك إذ أن تلك الدول قد ورثت خصيصة من خصائص السلطنة الإسلامية التي كانت حديث الفصل السابق حيث الانفصال التام بين الحاكم والمجتمع. فتم تحديث الجيش وتسليحه بسلاح عصري, وتغيير مناهج الدراسة, وتدوين القوانين كل ذلك تم في سبيل تقوية الدولة القائمة وتعميقها. إلا أن المهم في رأي العروي هو تأثير تلك الإصلاحات على وجدان الفرد ونظرته للدولة. أي بمعنى آخر هل تغيرت النظرة التي ترى في الدولة اداة للقهر والتسلط؟ يجيب العروي على هذا السؤال بالنفي التام. والسبب يكمن في رأيه في أنه حتى بعد القيام بتحديث الجهاز الإداري وتدوين القوانين وعقلنة السلطة, بقيت مسألة منطق القيام بالإصلاحات مشكلا. وذلك لأن الذي قام بتلك الإصلاحات هو أقلية غربية مستعمرة و متفرنجة ذات خلفية ثقافية واجتماعية مغايرة للمجتمع المحلي. تلك الأقلية كانت ترى في الدين العائق في التطور والتقدم والتخلص من ربقة التخلف. لذا استبعدته من مجال السلطة السياسية. إن هذه الوضيعة قد أدت إلى توحيد فصيلين محليين يختلفون في الأهداف التي يصبون إلى تحقيقها. فالوطنيون يريدون التخلص من المستعمر واستبداله بأفراد أهليين. وترى الحركة الدينية هدفها في إعادة الشريعة إلى مكانها السابق والمسيطر.

الفصل السادس: النظرية وواقع الدولة العربية القائمة.

يمكن اعتبار هذا الفصل خلاصة جميع الفصول السابقة حيث يصل العروي إلى نتيجة مفادها أن الدولة الحق هي التي تكون مرتبطة بالأخلاق والإجماع عند جميع المفكرين سواء كانوا مثاليين أو واقعيين. ينطلق العروي من هذه النقطة ليتحدث عن واقع الفرد العربي ونظرته للدولة. وذلك لأن الاخلاق والإجماع إذا فقدا في دولة فإنها منقرضة لا محالة. فيتوصل العروي إلى أن الفرد العربي ورث النظرة التي ترى ان هناك انفصالا بين الاخلاق والقيمة من جهة وبين واقع الدولة القائمة. إن الفرد ينتظر قدوم دولة الخلافة التي يتحقق فيها التزاوج بين الدولة والاخلاق, وهو بذلك ينزع الولاء عن السلطة القائمة ولا يبقى للإجماع حولها مكان. وبغياب الأيدولوجية الدولوية[15] وهي قبول الدولة والانصياع الطوعي لها, فإن الدولة تلجأ للعنف المنظم للاستمرار والبقاء وهو مايؤدي إلى سقوطها عاجلا أم آجلا. و حتى المذاهب الغربية عند انتقالها للفرد العربي قد انتقلت لها عدوى العداء الوجداني للسلطة القائمة وبالتالي انتظار قيام دولة تجسد المبدأ النقي سواء اكانت ليبرالية أو ماركسية او وجودية. إن هذه النظرة سواء أكانت مورثة أو نتيجة انتقال أفكار غربية قد حالت دون ابتكار نظرية للدولة كما وضع أسسها هيغل. إن الخصيصة لهذه النظرية حول الدولة توحد مجالي الأخلاق بالدولة. أي ربط الاخلاق والقيمة بجهاز الدولة المادي من بيروقراطية مدنية او عسكرية.

ومن هذه النقطة يتضح  سبب عدم ابتكار نظرية حول الدولة في الفكر العربي السياسي. حيث أقعدت الطوبى الفرد العربي عن محاولة الجمع بين الاخلاق والإجماع من جهة والجهاز المادي للدولة من جهة اخرى. 

الفصل السابع:  المفارقة الحالية.

يتحدث العروي في الفصل الاخير عن ما يسميه بالمفارقة العجيبة. حيث تتساكن قيم العقلنة المتجسدة في البيروقراطية مع حكومة السلطان التي تحمي مصالحه وتنميها. والنتيجة هي أن الدولة العربية المعاصرة تحمل كلا النمطين في وقت واحد أو تغلب أحدهما على الآخر في فترة زمنية محددة. إن هذه الوضعية المتأرجحة والثابتة هي نتاج لانعدام نظرية للدولة وللانفصال التاريخي بين القيمة من جهة وبين الجهاز المادي للدولة من جهة أخرى. بعبارة أخرى إن الطوبى لم تسمح للنظرية الدولوية بالظهور والنجاح. والسبيل للانفكاك من هذه الوضعية الحرجة هي بهجر الطوبى[16] والتفكير في الربط بين أخلاقيات الدولة وبين الجهاز البيروقراطي. عندئذ فقط  يمكن لنظرية الدولة الظهور من الرماد.






[2] هي استخدام العقل الحسابي المجرد فبي كافة مناحي الحياة
[3]صفحة 14. العروي, عبدالله . مفهوم الدولة. المركز الثقافي العربي.2011
[4] م.س.ص 17
[5] م.س.ص 34
[6] م.س.ص 50
[7] م.س.ص 50
[8] وراثة الذكر الأكبر الملكية العقارية وحده دون باقي الورثة  يقصد بالبكارية:
[9] م.س.ص 70
[10] م.س.ص 81
[11] م.س.ص 85
[12] م.س.ص 99
[13] م.س.ص 115
[14] م.س.ص 164
[15] يقصد بها العروي الرؤية التي تؤمن بأهمية الدولة الحديثة وحضورها
[16] يعني العروي بالطوبى ( تخيل نظام أفضل خارج الدولة وضدا عليها)م.س.ص.198





No comments:

Post a Comment