Tuesday, May 3, 2016

نقد الفكر اليومي


قراءة في كتاب نقد الفكر اليومي
د.حسن حمدان

قراءة مي عبد الوهاب

نبذة عن الكاتب:
يصادف هذا الشهر ايار/مايو ذكرى اغتيال المناضل لأجل  الإنسان  حسن حمدان أو  المشهور (بمهدي عامل) هو مفكر وفيلسوف لبناني اشتهر بفكره الثوري التقدمي(العملي) على نموذج كارل ماركس, مهدي عامل لم يكن مفكراً تنظيرياً فقط بل امتد عمله المعرفي إلى الساحة النضالية والسياسية. من أبرز  ما يميز عمل مهدي هو ربطه الدائم بين مفهوم الثقافة والعمل على أرض الواقع من خلال التثوير على كل ما هو مسيطر " في ضرورة أن يكون المثقف ثائراً او لا يكون!" قام بوصفه الكثيرون بغرامشي[1] العرب رغم التحفظ على التشبيه ولكن يعود ذلك للسبق التاريخي والاشتراك في الفكر والمنهج الماركسي.

محاولة منا لإحياء ذكرى احدى رموز الفكر النضالي قمنا بقراءة سريعة لكتابه الاخير "نقد الفكر اليومي" الذي كان آخر محطات قلمه والذي لم يكتمل بسبب الاغتيال, وقد بدأ حسن كتابة هذا الكتاب في مطلع الثمنينيات لكنه توقف بسبب حصار لبنان والحرب الطائفية واشتغاله بكتابه الاخر "في الدولة الطائفية" ثم عاد إليه لاحقا.
قام مجموعة من اصدقائه وطلابه بجمع الكتاب وترتيبه وذلك حتى يقام نشره والاستفادة من افكاره وان لم يكتمل بعد.

 فكرة الكتاب قائمة على عدة نصوص و اّراء مختلفة وردود أفعال , كانت تنشر في الصحف اليومية والمجلات الشهرية التي تعنى بالثقافة والفكر من قبل كتاب أمثال أدونيس, موسى وهبه, رضوان السيد الخ.. من كتاب تلك الحقبة فأراد مهدي نقد هذا النوع من الكتابة والتحليل السريع المبسط وهذا ما أسماه فكرا يوميا(وهو ما يشبه كثيرا اليوم وسائل التواصل الاجتماعي بالاضافة الى الصحف بطبيعة الحال) وحاول ان يكشف عيوب ذلك النمط من الكتابة وطريقة التحليل كونه لا يعبر عن التعقيد الحقيقي للأحداث بل إنه كان يختزل الصراعات بتعليقات بديهية تزيف بها الوعي العام وتخلق نوع من التطبيع العدمي لمشاكل الانسان اليومية فيصبح الفكر هشا لا يواجه مسؤولية النقد والتحليل الصارم للامور. ولا نخفي على من يحاول قراءة هذا الكتاب بأنه لن يواجه مادة بسيطة, فطريقة مهدي في الكتابة وترابط الافكار الكثيفة تحتاج لتركيز كبير لا نستطيع القول باننا قد استطعنا فك شفرات الكتاب حقا فهو يحتاج للقراءة المتأنية المتكررة.

تدور أهم  الأفكار الرئيسية التي تضمنها الكتاب أو  ما أسماها البعض معارك على عدة توجهات في الحقل الايديولوجي. اولها اصحاب التوجه العدمي في طريقة التفكير والتحليل ويسمي فكر أصحاب هذا التوجه بالفكر الذي يريد لنفسه دائماً موقع الصفر ويلغي التناقض ويضع القاتل والمقتول في أرضية واحدة! إذ النقد من موقع اللاموقع ليس نقدا ويشبه هذا النوع بالفكر الديني الجامد كما في النص التالي"من موقع رفض التاريخ, ومن خارج دائرة زمانه اي من موقع "القدسي", هذا الذي هو في التاريخ موقع الفكر الديني وموقع فكر عدمي هو فكر ديني مقلوب, يلغي الله ويستبدله بالصفر الكلي, وينظر في التاريخ بعين الله الملغي, من موقعه في المطلق. لا يتغير شيء باستبدال المطلق بالمطلق, فمن موقعه ينظر في التاريخ الفكر العدمي, وينظر فيه الفكر الديني فيختلط الاسود بالابيض, سواء بسواء, تلغى الاضداد, ويبقى القدسي, العدم, المطلق, وهم بالطهر, ومهزلة الفكرين في مقاربة للتاريخ تلغي التاريخ, ورفض للسياسة يؤكدها."

ثانيا تجده ينتقد كثيرا وبشدة ثنائية الأنا والاخر وأغلب  الثنائيات المتمثلة مثلا في الشرق والغرب ! العرب والعجم الاسلام ودار الحرب, الخارج والداخل الخ.. من منطق الثنائيات. وسيلاحظ القارىء هذا التوجه يتكرر كثيرا في اقتباسات الكاتب لعدة نصوص تنقد المنهج الماركسي  بحجة أنه لا يمثل النموذج الإسلامي الشرقي وأن  ظهوره في اوروبا يجعله لا يصلح للتطبيق في دول الاسلام,وايضا لأنه مبني على أسس نبذ الدين بحسب تعبيرهم وأن  الماركسيين العرب يحاولون عبثاً جلب الأفكار التغريبية للعالم الإسلامي العربي. ويرى مهدي في هذه  النوعية من النقد هشاشة فكرية, ثم إنها  لماذا لا تعمم على كل العلوم؟ لطالما هي من فكر الغرب نفسه وثم إن  تلك الايدولوجية الاستعمارية هي التي اقامت الفصل بين الشرق والغرب كفكرة الفصل بين الروح والجسد مثلا ومنطق الذات و الآخر هذا هو نمط تفكير مستورد اذن من الخارج! ويحاول أيضاً  الفكر البرجوازي المتأسلم الغاء الواقع المادي باستبدال العامل الغيبي فيه والغاء الصراع الفعلي التاريخي فيه وبالتحديد تغييب العامل الاقتصادي المتمثل بعلاقات الإنتاج  التي يراها مهدي بأنها  محددات البنى الاجتماعية والصراع الطبقي ويرفض مهدي اختزال المشهد العربي الاسلامي فقط بالعامل الايديولوجي /الديني الفوقي كما يفعل هولاء النقاد, كما يرفض وصف هذا العامل الديني بأنه المحرك الأول  للبنية الاجتماعية العربية الاسلامية حيث يدعو لتفكيك العوامل الاجتماعية والتفريق بينها ويرفض التراتبية أي  بوضع عامل اهم من الآخر  وهكذا.. ولكن يقول بتوزيع العوامل في فضاء البناء الاجتماعي ووضع العامل المحدد أي عامل "علاقات الإنتاج " في خانته المادية التاريخية حتى نستطيع تحليل علاقات السيطرة في هذا البناء الاجتماعي. وينتقد الإصرار الدائم على تغييب العامل الاقتصادي  ويخص بذلك مرة أخرى  الطبقة البرجوازية المسيطرة في الكتابات العربية واستبدالها دوما بالعامل الغيبي أي الايديولوجي الديني وتعقيبا على ذلك يقول" ذلك أن  الكلام على نسق "رأسمالي" لا يمكن ان يقابله كلام على نسق "شرقي" يقابله, مثلا كلام على نسق إقطاعي أو استبدادي أو غيرهما من أنساق ما قبل الرأسمالية التي نجدها منتشرة في مجتمعات غير اوروبية. فتحديد النسق بأنه رأسمالي هو تحديد "اقتصادي" صالح له في الشرق كما الغرب هو ببساطة نمط تاريخي محدد من الإنتاج  بحسب شروط المجتمع وجميع تلك المسائل يمكن طرحها ومعالجتها في اطار مادي تاريخي. فالأمور بالنسبة للفكر الغيبي تندرج في واحدة من خانتين إما ذات وآخر .تحديد التبعية على قاعدة تغيب الاقتصادي الذي بتغيبه يتماسك هذا الفكر الغيبي ويتسق. والاقتصادي المغيب هذا هو بالضبط نمط الإنتاج  الرأسمالي الذي تم استبداله بالغرب, فلم يعد للتبعية, بهذا معنى العلاقة بين نمطين أو أكثر من الانتاج يسيطر منها واحد على الآخر في شروط تاريخية محددة, أو  بين  أشكال مختلفة من نمط الانتاج الواحد الذي هو نمط الإنتاج  الرأسمالي. لم يعد للتبعية في تعبير اخر, أساس اقتصادي هو الذي تقوم به, بل صار معنى العلاقة بين حضارتين او ثقافتين. واحد هو الغرب والآخر هو الإسلام . إ   نها  بالعكس علاقة تعايش في البنية الاجتماعية الواحدة أي علاقة تعايش بين أنماط  مختلفة في وحدة النظام الرأسمالي العالمي, أي  وحدة العلاقة الامبريالية, من حيث هي علاقة بنيوية يحكم تطورها قانون تفاوت التطور, بين بنيتين متميزتين, أو شكلين متميزين من علاقات الإنتاج  الخاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي الواحد:شكل امبريالي وشكل كولونيالي."[2]

نستشف من هذة النصوص للكاتب التعقيد الواضح! ولكن لا يخفى علينا بأنه حاول كثيراً أن  يخلق فضاء مفاهيمي عربي للماركسية مع كونية النظرية الماركسية كما أصر  أن يسميها. وقد شكلت كتابات مهدي منعطفاً  مهماً في تاريخ الكتابة الماركسية العربية حيث قام بإعادة إنتاج  أدوات تحليلية تقدمية جديدة ينبغي علينا إعادة  قراءتها قراءة نقدية واعية وتجديدها لعلنا نوفق في خلق  تغيرات جديدة في طريقة فهمنا للظواهر الاجتماعية  في ظل الصراع المحتد في المنطقة والعالم سواء .

وقد ترك لنا الشهيد مهدي الصفحات الاخيرة من كتابه هذا نصف فارغة والتي تعد متابعة لكلامه "على عدم وجود نمط معين من الإنتاج  يمكن تمييزه بأنه نمط انتاج اسلامي" لتكون المهمة الآن على الأجيال الجديدة في إكمال ما ناضل من أجله , وفي تقديم فكر تقدمي جديد يدخل في غمار الصراعات الطبقية بشكلها الجديد.










[1] أنتوني غرامشي: هو مفكر  ايطالي ماركسي اعتنى بدراسة الثقافات المسيطرة او المهيمنة ضمن فلسفة البراكسيس " الممارسة والنظرية" انظر

[2]  انظر كتاب "في نمط الانتاج الكولونيالي" للكاتب نفسه لمزيد من التفصيل حول طبيعة العلاقة الامبريالية

Sunday, April 10, 2016

جمهورية الفلاحين .. ثورة لبنان التي نسيها التاريخ ..




قراءة علاء بامطرف, مراجعة مي عبد الوهاب

جمهورية الفلاحين .. ثورة لبنان التي نسيها التاريخ ..
أحد أهم أجزاء الأدب هو قدرته على تجاوز التاريخ  الرسمي أو روايات المنتصرين وتحويل إرث الحكايات الشعبية والأساطير إلى أعمال أدبية, هذا مافعله رمزي توفيق سلامة في روايته  جمهورية الفلاحين , و التي أراد توفيق من خلالها  أن يصور الثورة التي قام الفلاحون بها في جبل لبنان عام 1859 وهو أحد أحفاد الثوار ناقلاً صورة يومية لماقبل الثورة وحتى حدوثها وانتهاءها .
تبدأ الرواية في قرية كفر ذبيان  أحد قرى جبل لبنان والتي تقع تحت الحكم الإقطاعي , في فترة كان الجبل يتمتع بحكم ذاتي دون تدخل الدولة العثمانية آنذاك , ووسط تدخلات غربية بغرض حماية الأقليات , تهيمن طائفتان على الديموغرافية السكانية وتتقاسم جغرافية الجبل :  المارونية والدرزية.
كفر ذبيان تقع  في الجزء الماروني من الجبل حيث ثار الفلاحون على أسيادهم الإقطاعيين والذين ينتمون لنفس طائفتهم المارونية , تصف الرواية منذ البداية مشاهد العنف الطبقي الذي يمارسه الإقطاع  على الفلاحيين من خلال سرقة الأراضي و الضرائب المتزايدة , إلى مناظر الإضطهاد اليومية .
تبنى حكاية  الرواية من خلال شخصية محورية , هي شخصية إلياس موظف السفارة الفرنسية في بيروت , وهو أحد أبناء حميد أحد البائعين الرحل في كفر ذيبان , لكن الياس يترك عمله في بيروت ويعود   إلى القرية إثر حادثة مقتل أخيه وخطيبة أخيه على يد أحد الإقطاعيين ظلماً ودون أي إمكانية للجوء للعدالة , عاد ليكتشف أن أخوه كان قائد مجموعة من شباب الفلاحين في قريته  الناقمين على الوضع , وليحل محل أخيه في الحركة المولودة , ووسط صراع آخر تولد بين الإقطاعيين  وحاكم الجبل , حيث أراد الإقطاعيون عزل الحاكم للإستيلاء على كامل الضرائب, تمكن الثوار الشباب من شق طريقهم وإقامة علاقات مع القرى الأخرى حيث اكتشفوا أن الكيل فاض على الجميع وأن في كل قرية مجموعة تنتظر الوقت للوثوب وفعلاً تشكل المجلس من قيادات كل قرية وسمي ممثل القرية : شيخ شباب , وظل عمل اللجنة في السر دون أي إعلان .
إندلعت شرارة  الثورة في ردة فعل على مافعله أحد الإقطاعيين في السوق من إسائة للبائعين فلم يحتمل الناس وهاجموا الإقطاعي وأصدرت اللجنة قراراً بالتحرك في جميع قرى كسروان ضد هيمنة الإقطاع  وفعلاً لم تلبث الثورة أن اندلعت وتم طرد الإقطاعيين من بيوتهم ونفيهم والغاء امتيازتهم والإستيلاء على ممتلكاتهم بعد رفضهم مطالب الفلاحيين الفقراء, و الأسلحة التي استخدمها الثوار كانت بقايا من حملات سابقة أو من أسلحة الإقطاعيين القديمة .
 تحكي الرواية عن أن الكنيسة اتخذت مركزاً محايداً في البداية نظراً لأن أغلب الأباء ينتمون إلى طبقة الفلاحين وعموم الشعب, ويروى في الحكايات الشعبية التي نقلتها الرواية أن البطريرك كان يحمل حقداُ على الإقطاعيين بسبب إذلال تعرضت له والدته في الكنيسة من سيدة إقطاعية, عامل مهم آخر جعل الكنيسة تبقى في موضع المراقبة وهو أن الإقطاع كان سلطة لها نفوذ أكثر من الكنيسة .
في بداية الثورة اتخذت كافة الأطراف موقف المراقب, سواء الكنيسة أو الدولة العثمانية , أو السفارات الأجنبية , وجاء انتصار الفلاحين سريعاً وقوياً فلم يعد للإقطاعيين وجود في قرى كسروان .
طانيوس شاهين قائداً للثورة ..
ظهر طانيوس شاهين كقائد  حيث استلم قيادة الثورة و وقد بدا طانيوس في الرواية دون شكل محدد لشخصيته وهذا يعكس الروايات التاريخية عنه في الحقيقة فلم تتفق عليه الأقوال, من الذي اعتبروه ثورياً جاء على حذو الثورة الفرنسية  إلى الذين اعتبروه مجرد قاطع طريق, استلم قيادة الثورة وقادها إلى الإنتصار على الإقطاعيين معلناً قيام جمهورية الفلاحين في كسروان كأول جمهوريات الشرق .
لكن ما إن تطور الوضع حتى أبدت الكنيسة قلقها من تطور الأوضاع بشكل سئ مما سيحتم تدخل الدولة العثمانية  وخسارة الحكم الذاتي للمسيحين الموارنة في الجبل,  و أبدت  السفارات أيضاً قلقها من تطور الوضع حيث سيؤثر بشكل واضح على السياسة الدولية .
و رغم أن الإقطاعيين هزموا وبدأت الجمهورية الصغيرة تفرض سيطرتها, إلا أن المعركة كانت تدار بشكل أكبر فالإقطاع لم يكن ليسلم بهذه السهولة وعاد محاولا التحالف مع الإقطاع الدرزي في الجهة الأخرى من الجبل وتخويف الدولة العثمانية من أن الجمهورية ستكون مثالاً يحتذى به في باقي الأماكن .
استمرت الجمهورية لعام كامل بين الفوضى التي كان الإقطاع يدعمها من بعيد كشكل من أشكال الثورة المضادة, وكانت عينا الياس تتابع كل هذا  بمشاعر متضادة بين شعور الإنتصار الثوري على الإقطاع وشعور مشاهدة الثورة تتجه نحو الهاوية. لكن النهاية كتبت حين اندلعت أحداث طائفية بين الدروز والموارنة في إحدى القرى المشتركة ويروى  أن العراك كان في البداية بين طفلين أحدهما درزي والآخر ماروني ثم تطور الوضع إلى تدخل العائلة  ثم الطائفة ثم تطور الوضع إلى عراك دموي  نتج عنه لجوء الموارنة إلى الأماكن التي تتبع للجمهورية الناشئة لكن الأحداث الطائفية إشتعلت في كل الجبل منهية بهذا حلم الجمهورية الناشئة .
لتطال المجازر البشعة جميع أنحاء الجبل, عرفت لاحقاً بأحداث 1860 والتي نتج عنها فصل لبنان عن سوريا وإرسال قوات مراقبة فرنسية وعرفت الأحداث بأنها كانت علامة فارقة في التاريخ الحديث للمنطقة حيث صار التقسيم الطائفي هو السمة الرسمية للتقسيم السياسي والإجتماعي والطبقي .


جمهورية الفلاحين كعمل أدبي ..

الرواية كانت خطابية بشكل أكثر من اللازم مع تحميل الشخصيات أكثر مماتحتمل في بعض  المواضع , لكنها وفقت في بناء تسلسل درامي للأحداث إلى النهاية .
تمكنت الرواية  من نمذجة هذه الثورة الصغيرة بداية من الغضب الشعبي القادر على إزاحة كل من يقف في طريقه, هذا الغضب الذي تجاوز مشاعر الطائفة أو سؤال الدين  إلى الثورة المضادة التي قام بها الإقطاع الماروني والدرزي على حد سواء والتدخلات الخارجية ممثلة بالدولة العثمانية والسفارات والكنيسة حيث انتظر كل واحد من هؤلاء الحلول بشكل أو آخر مكان الإقطاع, نهاية بالأحداث الطائفية التي قضت تماماً على أحلام الفلاحين بقيام جمهوريتهم العادلة.




Tuesday, March 1, 2016

لمحة عن خارطة اليسار العربي


قراءة في خارطة اليسار العربي

قراءة مي عبد الوهاب , مراجعة ولاء عبد الله

هذة التدوينة هي قراءة في كتاب "خارطة اليسار العربي" الذي تم نشره عام 2014 من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ*، التي تعد من أنشط المؤسسات مناهضة للرأسمالية الجشعة. تلعب المؤسسة دورا هاما كمساحة للتفكير لصالح الحركات التي تناضل من اجل العدالة الاجتماعية والديمقراطية المباشرة بالاضافة انها تقوم على نشر الكثير من المواد البحثية والدراسات النقدية التي تهتم بتحليل البنى الاجتماعية ضمن منظومة العلاقات والمصالح المشتركة في ظل النظام النيوليبرالي الحالي. وتحاول وضع حلول بديلة وتقدمية من خلال عقد ورش عمل تقوم بالتدريب على التربية السياسية والمؤتمرات التي تخدم اهدافها الجوهرية، بالإضافة إلى ارتباطها الوثيق بالحزب اليساري في ألمانيا.

قبل ان نبدأ بتقديم قراءتنا السريعة للكتاب علينا أن نقوم بتعريف كلمة" اليسار " في سياقاتها المتعددة التاريخية والسياسية على حد سواء فكيف ظهرت كلمت اليسار بمعناها الواسع الان ؟!

الكلمة المفتاحية لـ " اليسارية او اليسار " هي العدالة الاجتماعية. و في تعريفها الكلاسيكي، هي عبارة عن مصطلح يمثل تيارا فكريا وسياسيا يسعى للعدالة الاجتماعية و المساواة بين أفراد المجتمع. ويرجع مصطلح اليسارية تاريخيا إلى الثورة الفرنسية وذلك بالتغير المتمثل بالتحول الى النظام الجمهوري. وكما هو طبيعي، تتغير وتتشعب المصطلحات مع مرور الوقت وتراكم الأحداث حيث أصبح مصطلح اليسارية يغطي طيفا واسعا من الآراء لوصف التيارات المختلفة المتجمعة تحت مظلة اليسارية، كاليسارية في الغرب تحت مسمى الاشتراكية أو الديمقراطية الاشتراكية أو الليبرالية الاجتماعية. من جهة أخرى، تندرج تحت المصطلح العام لليسارية حركة يطلق عليها اللاسلطوية التي تسمى باليسارية الراديكالية.*
يعتبر كتاب " خارطة اليسار العربي " مادة بحثية تحاول وضع اليسار العربي " السياسي" تحت المجهر ابتداءا من ظروف نشأته التاريخية والعوامل التي أدت إلى ظهوره في الساحة السياسية العربية. يتناول الكتاب تجارب ستة دول عربية -تونس، مصر , اليمن , السودان , المغرب والجزائر - كانت قد مرت بتقلبات سياسية عديدة، أهمها الحقبة الاستعمارية وبعد ذلك مراحل الاستقلال الوطني.وقد يكون هذا الكتاب نقطة انطلاق جيدة للقارىء الذي يريد اخذ فكرة مجملة ولمحة تاريخية عن النشاط اليساري (المنظم) السياسي بالتحديد. مع العلم بأن الكتاب لم يتطرق لخارطة الفكر اليساري المتمثل في التاريخ الثقافي والفكري للمفكريين العرب اصحاب التوجهات اليسارية .

يستهل الكتاب بمقدمة خليل كلفت عن اليسار العربي والثورات العربية التي حدثت مؤخراً ويضع اليسار العربي في سياقه ومجال عمله في الساحة السياسية العربية، فهو يستمد تعريفه من طبيعة علاقة تلك الدول في الإطار الاقتصادي والسياسي التبعي للدول الاستعمارية المتمثلة في الدولتين الامبيريالتين فرنسا وبريطانيا وبعض الاستثناءات مثل إيطاليا.
يتضح من الكتاب أن أهم أهداف ونضالات اليسار العربي في ذلك الوقت كانت مناهضة القوة الاستعمارية والتبعية والنداء للتحرر من تلك العلاقة عن طريق الاستقلال السياسي وطرد المحتل. بعد ذلك أصبحت النضالات تنادي بالحريات والمساوة والاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية التي مرت بها تلك دول في فترة ما بعد الاستقلال وقد عرفت المنطقة الكثير من الانقلابات العسكرية والثورات والحكم الديكتاتوري الذي قد عانى منه اليسار العربي من قمع ومنع بعض الدول تشكل ونشاط تلك الاحزاب المنتسبة لليسار.

وكانت عوامل نشأة اليسار العربي موازية إلى حد كبير لظهور الاتحاد السوفييتي والمعسكرات الاشتراكية مثل التي ظهرت تباعا في الصين تحت راية الماركسية. وكان ايضا سقوط الاتحاد السوفيتي أثر كبير على اليسار العربي كما حدث في كل الحركات اليسارية في العالم. وبعد الانكسار والفشل الذي عانت منه القومية في البلدان العربية ظهرت الدكتاتوريات الرأسمالية المعادية للشيوعية تابعة بذلك للفكر الغربي الامبيريالي وسادت ثقافة الحزب الواحد وأصبح عمل النقابات صوري لا تأثير حقيقي له. ويضيف كلفت أن واقع معارك الاستقلال الوطني بقيادة القوميات الرأسمالية في العالم العربي هي إحدى خصائص اليسار العربي التاريخية ويرى إن مغامرات الأنظمة القومية هي التي دمرت الأمة العربية وجلبت التدخلات وخاصة الاحتلال الاستعماري الأخير المتمثل بالصهيونية في فلسطين حاليا.

وأصبح اليسار العربي يشكل أحزابا شيوعية ضعيفة وهشة أيدولوجيا طبعا باستثناءات بسيطة حسب كلفت. ويضرب أمثلة كثيرة أهمها حركة القوميين العرب التي يشهد لها بامتدادات جيدة في كثير من الأحيان. في تلك الفترة، كان هدف اليسار القومي العربي هو الاستقلال على الطريقة الناصرية والبعثية. من جهة أخرى، يقول بأن اليسار انحرف كثيرا وأصبح "فلولا" للشيوعية العربية القديمة السوفيتية التي امتدت بأعمار الأنظمة القومية البعثية العراقية والسورية متمثلا بطموح بعثي في العراق اي عراق بعث صدام حسين حتى إعدامه، وفي سوريا بعث الأسد الذي ادى الي توسيع نفوذ سلطته القمعية لغير حزبه, الأمر الذي يجرد الكثير من هذة الاحزاب والحركات من صفة اليسار بالأصل.

اليسار والثورات العربية
رغم ما تحقق من تأثيرات جيدة للماركسية في مجال الممارسة العملية الثورية في كل مكان، وفي العلوم الانسانية والفكر على مدى التاريخ الى ان الالتباس والتشويش في مفهوم الثورة وطبيعتها قد أثر كثيرا على تأثير بعض الحركات اليسارية في الثورات ولم تعد المقدمات النظرية كافية لتقديم فهم عميق لمسألة الانتقالات الجديدة في تركيبة المجتمع سواء كانت سياسية أو اجتماعية على حد سواء. ولا يعني عدم الفهم أيضا بأنه العامل الوحيد إلى ما ذهبت إليه الثورات حاليا. كما يصعب الحكم على الثورات بالقول الفصل فيها إذ لا يزال الباب مفتوحا لتفاعلات مستقبلية كما أثبتت الأحداث ولا يعني الانتقال الديمقراطي بالضرورة الانتقال من اجل الديمقراطية ولا يعني أيضا انتهاء الساحة لدكتاتوريات عسكرية أو إسلامية أصولية.

ويدعو كلفت إلى الوقفات المتأنية ومحاولات إعادة النظر في طبيعة الثورة ومصائرها. ولا يستطيع أحد إنكار أن الثورات العربية حيرت الكثير من المفكرين والمحللين السياسيين بكونها ثورات، انتفاضات، تمردات الخ من التعاريف التي لا تنتهي بحسب خلفيات المتحدثين وتوجهاتهم الفكرية أو الأيدولوجية اوالغوغائية فقط.!

كان واقع المجتمع العربي قبيل الثورة باختلاف تفاصيل تجاربه مليء بالضغوطات الاقتصادية بالدرجة الأولى وقمع الحريات والاستبداد البوليسي للدولة. فقد يكون من الطبيعي أن تكون هذة المرحلة الانتقالية هي أعادة انتاج المنظومة الاستبدادية ولعل ذلك يدخل ضمن مهام اليسار السياسي والفكري في دخول الصراع من أجل الانتقال الفعلي إلى الديمقراطية مما يجعل جميع المعطيات تشير إلى أنها مهمة اليسار بحكم التكوين التاريخي للمنظومة الفكرية التي يتبناها. وقد تم ملاحظة شعارات يسارية قبيل الثورة كما في مشهد مصر على سبيل المثال متمثلاً في حركة كفاية ولا للتوريث أو الديمقراطية الاجتماعية التي هي العنوان الرئيسي لليسار التونسي وحركات الشباب اليمني مثل "شباب نحو التغير" و "ارحل" و"التحالف المدني للثورة الشبابية".ونجد في السودان ايضا حركة "قرفنا"  الطلابية التي ترفض الاوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية, وفي المغرب فكانت مطالب اليسار مختلفة فكانت المطالبة بالملكية البرلمانية هي المطلب الأول في مقدمة الإصلاحات. وفي الجزائر دخلت لويزة حنون أمينة حزب العمال اليساري المعارض إلى الترشيح الرئاسي رغم تحفظات بعض اليساريين تجاه مواقفها السياسية.

اليسارية العربية والتنوع المفاهيمي في الحراك والأهداف
يتضح لنا من قراءة تجارب الدول العربية المذكورة في الكتاب بأن التجارب مختلفة والتعاريف كثيرة وأن اليسار العربي ليس واحدا ويدخل ضمن مصالح وتوجهات مختلفة بحسب التجليات التاريخية في كل دولة وكل مجتمع، لذلك يجب التميز بين اليسار المتمثل في العمل السياسي الحزبي التنظيمي البحت الذي يشمل عدد كبير من التيارات السياسية وبين الحركات الطلابية والائتلافات التي تدعو للنشاط من أجل العدالة الاجتماعية من خلال عقد لقاءات فكرية توعوية والذي يعبر عنه فئة المثقفون والفنانون.
ونلخص من هذة القراءة لخارطة اليسار العربية بأن اليسار يتكون من توجهين الأول يخلط بين اليسار والشيوعية ويعد التأصيل الأيديولوجي الماركسي للأحزاب والمناضلين هو المحدد الوحيد ليساريتها, وأما التوجه الاخر الذي يرفض بشدة ارتباطه بالشيوعيين بسبب المنهج الفكري الذي يرتكز على الشمولية الذي كان متمثلا في الحكم السوفيتي الستاليني الذي اعتبره البعض خيانة لمبادئ الاشتراكية الحقيقية. مرورا أيضا باليسار الاجتماعي العروبي (القوميين العرب) واليسار الاجتماعي واليسار الديمقراطي.
وأخيرا، تعبر الحركات اليسارية عن تاريخ معقد وثري بالأفكار وتظل تفاصيل التجارب المعروضة وأشكال الصراع يمثلان دروسا في كافة المجالات من علوم اجتماعية وصولا بعلوم السياسة، إذ تعبر تلك الحركات عن عمل انساني في إبداع تصورات لبناء منهجيات قادرة على هزيمة الأنظمة التسلطية التي تقف امام الحريات. يمكن اعتبار اليسار نوع من أنواع المقاومات التي انتجتها البشرية على مدار التاريخ وتضحية من أجل ازالة جميع اشكال الهيمنة وإن كانت تنادي بنفس الشعارات اليسارية .!





* روزا لوكسمبورغ تم التعريف عنها في مدونة سابقة
* اhttps://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9





Monday, February 15, 2016

قراءة في كتاب محاضرات روزا لوكسمبورغ عن الاقتصاد السياسي



قراءة في كتاب محاضرات روزا لوكسمبورغ عن الاقتصاد السياسي والتاريخ الاقتصادي

قراءة  مي عبد الوهاب.
مراجعة علاء بامطرف وولاء عبد الله.

تعد هذه قراءة لكتاب "ما هو الاقتصاد السياسي؟" وهو جزء لمشروع " مدخل للاقتصاد السياسي" الذي لم يكتمل بعد، فهو يعد الفصل الأول فقط من سلسلة محاضرات ودروس ألقتها "روزا لوكسمبورغ" في عدة محافل في مدينة برلين ابتداء من عام 1907م، حيث تأجل مشروع نشره لعدة مرات:
الأولى بسبب انشغالها  بكتابة أهم أعمالها  " تراكم رأس المال" الذي أسماه  البعض مركز وقلب فكر روزا النضالي الحاسم , وكانت المرة الثانية حين اندلعت الحرب العالمية الاولى فقامت بتأجيل النشر وأخيراً بسبب سجنها .
من هي روزا لوكسمبورغ؟
روزا سميت بأسماء كثيرة وأوصاف مختلفة من مفكرة وفيلسوفة مروراً بمناضلة ثورية إلى اقتصادية أكاديمية، وقد تم وصفها من بعض المفكرين الماركسين بأنها شهيدة من شهداء الحرية والعدالة الاجتماعية للعمال " البروليتاريا " وقام بوصفها بعض منتقديها بالمتناقضة المتخبطة. روزا بولندية الأصل، ألمانية الثقافة تلقت تعليمها الأكاديمي بجامعة زيوريخ في سويسرا، منظرة ماركسية اشتراكية بدأت نضالها السياسي في عمر مبكر جدا في سن ال 16 فقط! ثم بعد ذلك انضمت إلى الحزب الاشتراكي في بولندا. بعد ذلك ذهبت إلى برلين لمتابعة نشاطها السياسي حيث تزوجت من صديقها الألماني لتحصل على الجنسية و تتمكن من الانضمام للحزب الاشتراكي الديموقراطي. سجنت لمواقفها المعادية للدولة الشيوعية بقيادة لينين ولنقدها اللاذع لنظرية المركزية، التي ترى أنها الشبح الذي يحول الشيوعية إلى نظام استبدادي فاشي.
·        يتكون الكتاب من خمسة أفكار رئيسية ناقشتها روزا:
·        إعادة تعريف مفهوم الاقتصاد السياسي .
·        مناقشة الاقتصاد العالمي و آليته وكيف وصل الى ما هو عليه آنذاك.
·        تحليل العلاقة بين ما وصفته بالتضليل البرجوازي والاقتصاد السياسي.
·        مناقشة حول جذور الاقتصاد السياسي وعلاقته بالاشتراكية.
بدأت روزا كتابها بالتذكير بتعقيد مفهوم الاقتصاد السياسي وما يحمل معه من اتجاهات واختلافات كثيرة حول طبيعة عمله وظروف ظهوره التاريخية التي ترفض بشدة نزعه عن بعده وسياقه السياسي الذي أثر كثيرا على أهدافه وتشويش الأفكار عنه وعن الغاية المرادة منه. وكانت قد ركزت كثيراُ على نقد المدرسة التاريخية المتمثلة في أحد مؤسسيها "فلهلم روخر" وخاصة في طرق تعريفهم للعلم من خلال استخدام الكلمات المرتبة تقنياً والتلاعب باللغة لاجل تسطيح الجوهر الأكثر تعقيداً. على سبيل المثال، لم تكن تقتنع بمفاهيم الاقتصادات الخاصة المتمثلة في مفهوم "الاقتصاد القومي" التي قام بتسميتها آدم سميث " اقتصاد الشعب " في كتابه المعروف (ثروة الأمم)، فهل لدى شعب ما اقتصاده الخاص به المنغلق على نفسه حقاُ؟! وتشير للتعريف التالي المقتبس من كتاب روخر (أسس الاقتصاد السياسي) " نعني بالاقتصاد السیاسي، نظریة تطور قوانین الاقتصاد القومي، والحیاة الاقتصادیة القومية فلسفة تاریخ الاقتصاد القومي كما یقول فون مانغولد: وهذا العلم، مثله مثل كافة العلوم المتحدثة عن حیاة أمة معینة، یرتبط من جهة بدراسة الفرد، ویمتد من جهة أخرى لیدرس الانسانیة جمعاء. ثم أكملت سلسلة انتقاداتها للأخير في نقد طريقة تدريس علم الاقتصاد السياسي التي وصفت أدوات تدريسه بأنها أدوات تبسيطية تصلح لتعليم الأطفال فقط.
وتذهب روزا مع التعريف التالي لعالم الاقتصاد السياسي الألماني شولمر وتراه مقبولا إلى حد ما، لكنه غير كافي:

إنه العلم الذي یبغي وصف وتعریف وتفسیر الظواهر الاقتصادیة، انطلاقا من أسبابها، ومن ثم فهمها ككل متماسك، شرط أن یكون الاقتصاد السیاسي قد تم تعریفه قبل ذلك بشكل صحیح. في صلب هذا العلم، یمكننا العثور على الظواهرالنموذجیة التي تتكرر لدى الشعوب المتمدنة المعاصرة، وهي ظواهر تقسیم وتنظیم العمل، وتدویر وتوزیع العائدات، والمؤسسات الاقتصادیة الاجتماعیة التي  بالاستناد إلى بعض أشكال الحق الخاص والعام، وإذ تكون خاضعة لهیمنة قوى طبیعیة متماثلة أومتشابهة، تؤدي إلى أحكام أو تخلق قوى متشابهة أو متماثلة وتقدم نوعاً من الصورة الجامدة للعالم المتمدن الاقتصادي المعاصر, أي نوعاً من القانون المتوسط لهذا العالم. انطلاقا من هنا، سعى هذا العلم بالتالي، هنا وهناك، إلى ملاحظة تنوعات مختلف
الاقتصادات القومیة فیما بینها، ومختلف أشكال التنظیم، لقد تساءل هذا العلم عن الترابط  والتتابع الذین ظهرت عبرهما هذه الأشكال المختلفة، فتوصل بهذا على أن یقدم نفسه بوصفه التطور السببي لهذه الأشكال : واحدة بالإنطلاق من الأخرى، ثم بوصفه التتابع التاریخي للمواقف الاقتصادیة. وبهذا تمكن هذا العلم من مفصلة السمة الدینامیكیة حول السمة الجامدة. وتمكن منذ بداياته، وبفصل أحكام القیمة الأخلاقیة التاریخیة، تمكن من أن یضع مثلاً علیا، وحافظ على الدوام على وظیفته العملیة هذه، إلى درجة معینة، وأخرى تمكن على الدوام من وضع تعلیمات عملیة للحیاة، إلى جانب النظریة." وتشير أيضاً لكارل ماركس الذي أسهمت أفكاره  بالتأثير على كل من فلسفتها ونشاطها السياسي وخاصة في كتابه رأس المال وتعلق الأمل  على فصل " نقد الاقتصاد السياسي " للكتاب وترى بأن ماركس خرج عن نطاق الاقتصاد السياسي بتعريفه المجرد وقام بنقده كشيئاُ منجزاَ ومتحققا . وتشكك روزا في تلك المحاولات التي تريد أن تؤكد أن  الاقتصاد السياسي قد ظهر كعلم انطلاقا من حاجات شعرت بها الدول الحديثة.
تستنتج روزا من واقع التعريفات والتوجهات المختلفة لما يسمى علم الاقتصاد السياسي بأنه سيظل محط جدل طويل لا ينتهي. وتشدد مرة أخرى على السياقات التاريخية والمصالح السياسية وأن التناقض في الآراء سيظل محكوماً بالسلطة ومواقع الأشخاص الاجتماعية.وعلى الصعيد الاخريرى بعض مؤرخي الاقتصاد بأن هذا العلم كان موجوداً منذ اليونانيين والرومان، و يرى مؤرخون آخرون بأنه لا يرتقي لمستوى علم إلى الآن  بالاستناد إلى الملاحظة القائلة "الاقتصاد السياسي علم قيد البدء, ومازال يحتاج الى إنجاز "

ثم تنتقل روزا للفكرة الثانية ألا  وهي الاقتصاد العالمي وظاهرة فائض الانتاج التي فتكت بالكثير من الطبقة العاملة وأعمال الفلاحة. مع ظهور التجارة العالمية والصادرات والواردات  ينتفي مفهوم الاقتصاد الخاص الذي يكفي شعبه فقط. يتناول الكتاب ألمانيا كمثال في استيرادها الكثير من الموارد الخارجية للصناعة والمنتجات الغذائية، فحتى الخبز الالماني يصنع بالحبوب الروسية، واللحمة تأتي من الماشية المجرية و الأرز من الهند وهكذا ..
أما بالنسبة للصادرات فتنتج ألمانيا الكثير من مواد الاستهلاك من منتجات الحديد والخشب ومصنوعات الزجاج إلى دول أوربية وإلى الولايات المتحدة، والسؤال هنا، هل فعلا يحتاج الشعب الالماني كل هذه المواد المنتجة أم أنها فقط لغرض التصدير! ومن الملفت للنظر أيضاً بأن معدل واردات ألمانيا أكثر من صادراتها، فكيف يمكننا أن نصر ونستمر بالقول بوجود ما يسمى الاقتصادات الخاصة أو القومية التي تخص شعب بعينه. وتنقد بشدة هذا التلاعب في تعريف الاشياء وخاصة ما يسمى بفكرة الحماية الجمركية للواردات الخارجية التي تصفها بالانغلاق المصطنع الذي يحاول تغطية عيوب ظاهرة التجارة العالمية التي انطلقت تبعا من خلال ثقافة الاستعمار مع الدول الامبريالية التي تعظم مصالحها على حساب الأيدي العاملة في ما يسمى بدول العالم الثالث. فلكي تعيش امثال تلك الدول ألمانيا إنجلترا وفرنسا و الولايات المتحدة يجب ان تلزم الآخرين في تلك الدول بأن يعملوا لأجل استمرار الحياة اليومية برفاهية في الدول الاستعمارية. تطرح بعد ذلك روزا السؤال كيف يمكن رسم الحدود بين اقتصاد شعب واقتصاد شعب اخر وكيف يمكن التحدث عن اقتصادات قومية كما لو كان الأمر يتعلق بمجالات ذات بعد وشكل واحد وكيف يمكننا النظر اليها بعد كل هذا الكم الهائل من التبادل التجاري .
وتذهب روزا بعيدا عن العلاقة الكلاسيكية لفكرة الصادرات والواردات  التي تعبر بأن  دولة ما يكون لها فائض من انتاجها لا تحتاج له فتقوم بتصديره للخارج وتستورد ما تفتقر له من موارد وتقول إن  هذه  الظاهرة التي قام باستغلالها المثقفين(الاقتصاديون) البرجوازين الذي يعملون للنظام الرأسمالي ورجال الأعمال  لتبرير تراكم وتعاظم ثرواتهم أو سلطتهم ونخبويتهم في المجتمع على حساب طبقة مأجورة  بأقل من قيمة مما تنتج ولا يمكنها الاستفادة أبداً مما تقوم بإنتاجه واصبح رأس المال هو النمط المهيمن وحده في المتغيرات الاقتصادية. وهي تسمي "رأس المال" بالسلعة الآفة الذي لا يستخدم لسد النقص في الاقتصادات القومية بل على العكس لخلق ثغرات جديدة. و تصف هذا الاقتصاد النقدي أنه اقتصاد ديون ورهن وثراء وفقر و بروليتاريا و استغلال و عواقبه وخيمة. وسنراه أكثر فحشاً مما نراه الآن في وقتنا الحالي والذي يؤدي إلى عدم أمان  و أزمات  اقتصادية مستمرة و فوضى و ثورات و حروب. إن  "الاقتصادات القومية" الأوربية تعقب قائلة : تمد أيديها  باتجاه بلدان العالم لتمزقها داخل المنظومة الرأسمالية الهائلة . وإن المبررات العلمية للهيمنة الرأسمالية  مستمرة وتبرز في رحى"الدولة القومية" لكي تدافع عن هذه الدولة حتى الرمق الأخير.
                                                                                                                  ويعتبر هذه العلاقة علماء الاقتصاد البرجوازين علاقة العرض والطلب والصادرات والواردات كما أسمتهم علاقة خارجية صرفة وطبيعية.
في فكرة التضليل البرجوازي كان الأكاديمي بوخر يرفض وبقوة فكرة امتداد التجارة العالمية وقال بأنها  لن تتوسع أبداً  ويصر على بقاء فكرة الاقتصاد القومي حاضراٌ و لا يرى أي مؤشر يدعو لهذا . ولكن كما يبدو حاليا بأن توقعات روزا كانت على حق في ازدياد غزو التجارة العالمية العالم أجمع  وليس مجرد تبادل سلع بسيط إنما  يتم قتل للسكان المحليين ولفكرة الانتاج الذي يغطي الحاجة. وتضرب روزا مثال آخر مهم في استغلال السلطة للطبقة المنتجة بأيديها في مصر حيث عمد الخديوي إلى تشجيع خلق المزارع القطنية في ازمة الحرب الأهلية  في الولايات المتحدة وحدث حينها التغير الجذري في علاقات الملكية في الريف المصري حيث تم سرقة الفلاحين اجزاء كبيرة من مزارعهم بالقوة ومن يقاوم كان يستخدم معه العنف والتصفية الكاملة وأعلنت تلك الأراضي ملكاً للخديوي وليس هذا فقط إنما  أجبروا  الفلاحين على العمل فيها بالقوة لأجل الإنتاج  وبعد ذلك التصدير للدول الاستعمارية وكانت النتيجة تدهور الأحوال المالية في مصر ومن ثم بسط جناحيه وقام باستغلال هذة الأوضاع الاستعمار الانجليزي الجشع.
تحاول روزا تحليل سياق علم الاقتصاد السياسي في ظل الطبقة البرجوازية التي سرعان ما قامت بالثورة في فرنسا ووصولت إلى  السلطة , فتم استغلال العلم لصالح مصالحها الشخصية وأصبح  لا يدرس هذا العلم الا في جامعات أوروبا المرموقة التي لا يستطيع الوصول لها سوى دائرتهم التي من ثمّ تقوم بالإمساك  بمقاليد المناصب السيادية في الدولة أو  أبناء رجال الأعمال الذين يدعمون بقوة العلم لخدمة مصالحهم الخاصة فقط وتلخص قائلة " إن  الأساس الذي يرتكز عليه الاقتصاد السياسي اليوم، ما هو سوى تضليل علمي لصالح البرجوازية ."
وتصف جذور علم الاقتصاد السياسي بأنه علم نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ترى من وجهة نظرها أنه  يتحول الى أساس علمي للاشتراكية، بينما تتحول السيطرة البرجوازية إلى سلاح في الصراع الطبقي الثوري الهادف إلى تحرير طبقة العمال "البروليتاريا" ولا تكف من تأييد كارل ماركس فتقول: مع هذا المفكر الفذ, أخذت  الاشتراكية والحركة العمالية الحديثة, مكانها لأول مرة في ميادين المعرفة العلمية الراسخة كما عبرت .
وتختم قائلة بأن الاشتراكية هي المثل الأعلى لمفهوم العدالة الاجتماعية والأخوة  بين البشر وتتوقع عودتها بقوة حتى بعد الانقلاب عليها واستغلال مبادئها من قبل الدولة الشيوعية بقيادة لينين الدكتاتور كما وصفته .

أما في جانب التعليم الاكاديمي فتناشد بالبحث العلمي الصارم و الحقيقي لفك التشوشات الغامضة و الألغاز حول سلوك البشر في حياتهم الاقتصادية, ومهمة البحث العلمي هي  التعمق في التحليل والدراسات المقارنة للكشف عن نقصان الوعي الذي تعاني  اقتصادات المجتمع منه كما تحذر من الاغراق في استخدام ادوات العلوم الطبيعية فقط لان الازمات الاقتصادية ليست من فعل الطبيعة فقط بل هي سلوكيات البشر تجاه بعضهم البعض والمتغيرات الحسابية ليست مثل المتغيرات البشرية وليست قوانين ثابتة لا تقبل الطعن!. الكتاب يعتبر محطة مهمة في فهم مسار الاقتصادي السياسي و معرفة البصمة التي تركتها مراجعات روزا لوكسبمرغ، و هو كتاب سلس عموما و تهكمي في كثير من الأحيان.






Monday, June 22, 2015

قراءة في صنم الحقيقة ورمز المقدس

ضمن  البحوث المحكمة المقدمة من مجلة مؤمنون بلا حدود نختار لكم قراءة قمنا بها لمقالة محمد شوقي الزين " صنم الحقيقة ورمز المقدس" صراع الايدولة والايقونة في الثقافة الدينية وتداعياته الحضارية.


قراءة علاء بامطرف و مي عبد الوهاب -مراجعة ولاء القرني



في محاولات إعادة تفكيك الثالوث الأنثروبولوجي الذي سبق وقام بالاشتغال على تفكيكه محمد أركون (الحقيقة-المقدس- العنف) يحاول شوقي الزين من خلال تحليل الابنية المذهبية والتشكيلات السياسية والدينية والاقتصادية (سلطة،رأس المال، الجهاد..).  الى وضع نموذجين يفسر من خلالهما الحقيقة التي تشكل المقدس وتبيعاته ويتمثل النموذجين في ما اسماه الايقونة والايدولة .

منطلقاً من  خلال فكرة الصورة  بمعنى البلاغة التي هدفها الإغراء , يمكن توصيف  الصورة بالمُجَلّى : الحيز أو الموطن الذي تتجلى فيه الحقائق المتعالية فتحقق الوظيفة المزدوجة بين التنزيه والتشبيه . يركز على أن الإنسان مهووس بالتصوير سواء قبولاً أو رفضاً يقول في المقدمة : ) إن المصير البشري في الديانات والثقافات يتوقف في معظم هياكله وأبنيته وفي جوهر وعلة وجوده على هذه الثنائية شبه المانوية في الصراع المذهبي بين مدح الصورة والقدح فيها (  والصورة على حسب التفسير الأفلاطوني : هي -1الصورة الأصل : فكرة السرير في العقل . -2 الصورة النسخة من الأصل: السرير الذي يصنعه النجار) سيدرجها الزين ضمن مفهوم الأيقونة (-3 الصورة التي تحصر الأصل: رسمة السرير في الورقة حيث هي تقليد للنص الشارح الذي هو تقليد للنص المؤسس )سيدرجها الزين ضمن مفهوم الأيدولة(.

-         الأيقونة : هي النسخة الدالة على الفكرة أو الصورة والشبه بين الأيقونة والأصل  هنا مبني على التمثيل بمعنى أنه مثال للأصل بمعنى أنها علامة على دلالة خفية أو متعالية .             جاءت فكرة الأيقونة من أن تجليات الحق في العالم تمر عبر رموز وصور تقتضي التأويل حتى ترجع إلى مصادرها الأولى حيث لا تصبح الصورة هي الحقيقة المتعالية لكنها مجرد وسيط رمزي بين الحقيقة المتعالية الغير قابلة للإدراك  وبين الإنسان .
يمثل لها شوقي الزين هنا بمثالين : أضرحة القديسين في المسيحية ومزارات الأولياء والصالحين في الإسلام وأن هذه النظرة تحمل رؤية سلمية للعالم تبث المحبة والحكمة والتسامح حيث أن وفرة الصور دليل على الإلتباس والتنوع .

-         الأيدولة : هي النسخة  المعبودة لذاتها ولا تحيل الا لنفسها فقط, وتجلب العظمة لنفسها دون أن تدل على مايفترض أنها مشتقة منه , ينشأ منها السيموكلار ومعناه صعوبة التمييز بين الحقيقي والمزيف بأن تحل الأيدولة محل النموذج الأصلي فتصبح هي النموذج .   وهذه الفكرة قامت على نسف الصورة والتأويل فمثلاً في الغرب قامت البروتستانية بنسف فكرة الصورة  والرموز والتماثيل من الكنائس وكل الهالة الماورائية للكاثوليكية ونظراً لصعوبة هدم الصورة دون إستبدالها بما يعوض جعلت من الفعل والعمل أساس للتحضر فأنتجت لنا الثقافة الليبرالية الحديثة .وفي الرؤية الإسلامية انتصرت الأيدولة بشكلها السلفي  على العلمانية والتصوف فنفت فكرة الصورة : ) النظرة المتسامحة للمختلف – تقبل التعدد كجزء من الكون – رمزية التبرك وقبور الصالحين ) فنفت كل هذا وحصرت العالم في نظرتها وقامت على هدم كل ما يمكن أن يعزز ثقافة التأويل من مزارات وأضرحة , ولأنها أيضاً لا يمكنها أن تلغي الصورة دون بديل أوجدت فكرة الجهاد وتطبيق الشريعة واستحضار الماضي والجمود معه دون محاولات التأويل والتفسيرات المختلفة والمتعددة التي تحي النص ولا تقتله .

الفاصل بين الأيقونيو الأيدولي مبني على القصدية أو النية ,وعندما أدخل *يوحنا الدمشقي*فكرة الصور إلى الثقافة المسيحية حيث كان تعليله أن الخير يتجلى للعالم في الصور وانتفاءها هو سقوط العالم في الشر وانتفاء الصور هو أيضاً سقوط للإله في العدمية لم يكن يقصد أن يدخل الوثنية إلى المسيحية كما سيتهمه الذين كفروه بعد ذلك وهذه هي مشكلة الحوار الديني الذي لم ينتج أبداً أي حل لأنه قائم على نظرة مختلفة من كل طرف ولأن غرض كل مشترك هو هداية الآخر إلى الحق .

يرى الزين أن العصر الحالي هو انتصار للأيدولة حيث استسلم إلى تقديس الحقيقة وإثبات الوجه الواحد للنصوص مع نفي غيرها وبالتالي نفي التأويل  حيث صار كل مذهب ودين مهووساً بفكرة نفي الآخر , وعلى الجانب الاخر نجد نوع اخر من المقدس متمثل في تقديس الحقيقة السياسية أوتحقيق القداسة الدينية باستعمال العنف الرمزي أو المادي : الحديث عن دول مارقة لا تخضع للمقاس الغربي , أو تكفير شرائح واسعة من المجتمع لا تتبنى فكرة الخلافة  "داعش نموذجاً".

يرد الزين هذا الصراع إلى الصورة والالتباس الذي يكتنفها دائماً , ويقدم فكرة الشكل كحل لنزع الصورة من سطوة الأيدولة , ونزع القداسة عن الحقيقة , ويمكن فهم الشكل على أنه صناعة طبيعية يخلقها الذهن بربطها بالسمات التي شكلتها ( البعد , اللون , الهيئة ( فيصبح وجه الأشياء هي عدد التوجهات التي يتوجهها دون حصر توجه واحد يكون هو الذي يُقدس دون غيره .
يقول الزين في نقطة ختامية  : ( شئ غريب أن تكون كل هذه الفلسفات –شيشرون , سينيكا , ابن عربي , نيكولا الكوسي إلى آخره- قد شددت على قيم التشكيل والتكوين بينما سار الوعي البشري نحو تصنيم الصورة بتقديس الحقيقة وتحقيق القداسة .. لا شك أن الإنسان لا ينفك عن الصورة التي وجد عليها , إذا كان لديه نزوع نحو الأيدولة بثبيت المتحرك فلأنه ينزع نحو تصنيم أو تحنيط مواهبه في تأسيسات سياسية تنتهي بالاستبداد وتأسيسات مذهبية ودينية تؤدي إلى الانغلاق والتزمت.

*يوحنا الدمشقي: آخر آباء الكنيسة الشرقية, أحد أبرز المدافعين عن فكرة التماثيل والصور في اللاهوت المسيحي.       

Tuesday, June 11, 2013

قصد المؤلف


قصد المؤلف..

اذا كان كانت عملية الفهم في القرن التاسع عشر تأثرت بشلايرماخر ودلتاي الذين ركزا الفهم في اعادة بناء الوضع الذي انتج فيه النص , والتحليق في أفق المؤلف كي يعيش المؤول الفعل الابداعي , ( مهمة الهرمنيوطيقا فهم النص كما فهمه مؤلفه بل حتى أحسن مما فهمه مؤلفه ) كما يقول شلايرماخر .
ورغم تراجع هذه الفلسفة في القرن العشرين الا أن هيرش يعيد تيار الفلسفة التقليدية مرة أخرى إذ يعلن أن موضوع التأويل الأساس هو قصد المؤلف : تتمثل مهمة المؤول الرئيسية في أن يعيد بنفسه إنتاج منطق المؤلف واتجاهاته ومعطياته الثقافية ثانية , أي باختصار إعادة إنتاج عالمه .))
ينحو هيرش في نقده على المواقف المعاصرة بارجاع قصد المؤلف الى الصدارة والتغلب على النزعة الشكية في إمكانية التأويل الصحيح ,(( الموضوعية غير موجودة مالم يكن المعنى غير متغير )) ويجزم هيرش أن أي تأويل لا يمكن أن يحدث إلا بلغة المؤلف : (( يستدل الشكي على الكثير من خلال حقيقة أن خبرات العصر الراهن ومقولاته وأنماط فكره لا تماثل تلك التي للماضي . فهو يستنتج أننا لانستطيع فهم النص الا بلغتنا الخاصة . ان هذه العبارة متناقضة نظرا الى ظرورة تفسير المعنى اللفظي بلغته الخاصة إذا مااريد تفسيره أصلاً)) , وربما نسأل كيف يمكن أنن نعيد توليد قصد المؤلف مرة أخرى , اذ يبني هيرش نظرته على قابلية توليد المعنى :(( تعتمد القابلية على اعادة توليد المعنى اللفظي والقدرة على المشاركة فيه على وجود شئ يمكن اعادة توليده ,.. ان القابلية على اعادة التوليد هي خصيصة المعنى اللفظي )) وقد علق كونز هوي في محاولته لمعرفة ماللذي يقصده هيرش بالمعنى اللفظي :(( فعندما يزعم هيرش أن المعنى يعد شأنا من شؤون الوعي فهو يقدم ضمنا نظرية للمعنى , إنه يعرف المعنى اللفظي بوصفه كل مايرغب شخص ما بنقله من خلال تتابع معين من العلامات اللغوية ويمكن نقله بواسطة تلك العلامات )) ولا يوافق هيرش أيضا على التفريق بين النصوص الشعرية والنصوص الاعتيادية , ويؤكد على ضرورة افتراض فهم واحد صحيح للنص في الأقل, للجزم بأن تأويلات معينة تكون تكون متفقة معه إلى حد ما .
رغم أن هيرش يعترف بصعوبة الوصول إلى المعنى الخاص في ذهن المؤلف (( فالسؤال التأويلي المهم والوحيد هو:هل قصد المؤلف ذلك المعنى العام بكلماته حقا ؟ )) ويستدل من هنا على أن القصد هو ما يبحث عنه الناقد بالضبط , في النهاية تبدو فكرة قصد المؤلف مسألة فلسفية وليست تطبيقية , ومثل هذا المفهوم يمنح المؤول الأسس التي يقف عليها للجزم بصحة تأويله وبأن هناك فهما صحيحا ينبغي الاقترا منه .
يعقب كونز هوي (( ولا شك أن الصعوبات المصاحبة لتوضيح مفهوم المعنى عند هيرش لاتبين أن نظريته في التأويل غير صحيحة ولذلك نقول إن هذه النظرية اذا لم تخطو خطوات مهمة يبقى عرضها غير واف , .. وهكذا فإن إصراار هيرش على قصد المؤاف بوصفه محددا للمعنى النصي قد حظي بترحيب واسع بوصفه أساساً جديداً لرفض الممارسة الشكلانية للنقد الانجلو- امريكي الجديد .
Top of Form