Monday, August 1, 2016

محاولة لفهم خطاب التصهين العربي



علاء با مطرف

لعبة الكذب السياسي 

تغير المفاهيم السياسية وتغير القيم المرتبطة بهذه المفاهيم سواء من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو الأخلاقية شكل في الغرب وفي الفلسفة الغربية نقطة مؤرقة وحاضرة في السؤال الأخلاقي ، انطلق دريدا مرعوباً من فكرة الكذب السياسي وألف كتابه تاريخ الكذب  في محاولة لإيجاد قراءة لهذا الفعل وتأثيراته ، و الرعب الذي استولى على دريدا كان من قدرة الكذب السياسي على تغيير مفاهيم  الصدق والكذب والحقيقة ، فحروب اليوم سيتم الإعتذار عنها غداً  وستتم المحاسبة  بقوانين اليوم في جرائم الأمس التي كانت في وقتها غير مجرمة و دون الاعتبار لظروف كثيرة ،  سبق لحنا أرندت أن تحدثت عن  أن بنية الكذب تتعمق أكثر من خلال البنية الجديدة للإعلام مما يجعل الكذبات السياسية الخاضعة للمصلحة والظرفية تتأصل كحقائق في الوعي الاجتماعي .
يركز دريدا على أن الانحرافات التي قد تدافع عنها الدول لا يمكن الصمود أمامها فقط بالصفة القانونية بل يجب كما يقول : (( العمل دون توقف وكلما تطلب الأمر كذلك، على الحوار واستدعاء البراهين والشهادات واسترجاع الماضي والاهتمام به والاعتماد في استدلالتنا على الأرشيفات التي لا يمكن الطعن فيها ... هذا لا يعني بأن الدولة ليس لها أي حق في هذا السياق ولكن يجب كذلك الاحتراس منها فهي قد تضر بالقضايا أي بالحقائق في حالة ما إذا احتكرتها ، و قد تجعل منها مجرد عقيدة  دوغماوية  أو أرثذوكسية ))
ولفهم هذا الخوف الذي أثر  على السؤال الأخلاقي في الغرب يمكننا  تطبيق مفهوم الكذب السياسي  في واقعنا العربي و كان لابد لهذا التطبيق أن يكون ناشئاً من خطاب الدولة العربية الحديثة ، وأكثر قضية عاصرت تطور الدولة العربية كانت هي القضية الفلسطينية التي مازالت عالقة إلى اليوم ، وسأقوم بتطبيق خطاب الدولة المصرية تجاه القضية الفلسطينية لتحليل  الكذب السياسي وأثره على الوعي الإجتماعي . والنموذج المصري هنا باعتبار مركزيته في الصراع وباعتبار أنه ذهب بعيداً في التطبيع .

من العدو إلى الصديق 
  
 سنستعرض التحولات التي طرأت على معالجة  الخطاب الرسمي المصري  للقضية الفلسطينية وللعدو الإسرائيلي والتي  أخذت  منحى متغير محاولاً تلخيصها في النقاط التالية ثم سأذكر تأثيرها على الخطاب الشعبي العام  :
1- حديث عبدالناصر مع صحفي بريطاني عن أن  الحل الوحيد هو استخدام القوة فأنت تملك الحق ولا أحد يريد أن يعيده لك وفي خطابات أخرى تحدث عن أن المشكلة ليست استرداد سيناء فقط وليست مشكلة حدود بل مشكلة وجود.
2- خطاب السادات في الكنيست الإسرائيلي حيث تحدث عن الحاجز النفسي الذي يمثل 70% من المشاكل التي تعرقل السلام  ومشاكل الحرب و إزهاق الأرواح و ترمل الزوجات وتيتم الأطفال ، والحديث عن المستقبل و ضرورة أن تواجه جميع الأطراف الواقع بكل شجاعة .
3- السلام البارد في عهد مبارك والذي تم فيه استكمال نقاط اتفاقية السلام  .
4- حديث السيسي وبدون مناسبة سابقة في افتتاح محطة كهرباء أسيوط منتصف شهر مايو الماضي عن العلاقة مع إسرائيل  وعن ضرورة تجاوز الكراهية والحقد والتسامح وبناء تصور جديد للمنطقة يكون الحب والسلام والوئام والأحضان عنوانه الرئيسي.
هذا التحول من عبدالناصر إلى السيسي ، باعتباره خطاب الدولة ، وباعتبار التأثير المؤكد للدولة العربية في غياب قنوات التعدد والديموقراطية ، فالخطاب الرسمي هو المسيطر على الصحافة والإعلام والثقافة والدين وبالتالي فهو مايبني بشكل أو آخر الوعي الاجتماعي ، بمحاذاة هذا التحول الرسمي  السابق يمكن ملاحظة أثر هذا التغير الرسمي على  النظر الشعبي  للقضية الفلسطينية :
1- مرحلة التحرر الوطني : قضية وطنية – حق مؤكد – تحرر من الاستعمار
2- مرحلة سيطرة الحركات التقدمية والخطاب اليساري : سيطرة إمبريالية  – هيمنة غربية – نبتة سرطانية
3- مرحلة الانفتاح الإقتصادي : صراع منهك  – عدو قوي – ضغط دولي
4- مرحلة الخطاب الإسلامي : حق ديني – سلب مقدس– القبلة الأولى للمسلمين
هذا التقسيم لاينفي تداخل الشعارات أو المسارات لكنه يمثل الخطاب الطاغي في فترة ما ، و أهمية فهم هذا التحول هي التي ستمكننا من فهم  الخطاب المتصهين الحالي والذي هو ناتج بشكل أو آخر للخطاب الرسمي وقنواته. هذا التحول  أنتج خطاباً متصهيناً يعتمد على  نقد المسار الرابع  : الحق الديني – سلب المقدس – القبلة  الأولى للمسلمين, رغم أن هذا الخطاب هو  نتيجة لمرحلة الخطاب الإسلامي الحركي الجديد الذي ازدهر منذ الثمانينات والذي أبرز القضية الفلسطينية بشكل ديني مما جعل الخطاب المتصهين حين  يتناول القضية يناقش موضوعات مثل : السلام – التسامح – حوار الأديان – فهم الآخر – إيقاف الكراهية – معاداة الأصولية أو مثل التي  رأيناها في خطاب السيسي ،  وجعل من الذين يعارضون التطبيع: أصوليين – تكفيرين – أصحاب نزعة الرأي الواحد ، واختفت جميع المصطلحات والمفاهيم التي تم تناولها في المسارات السابقة : اللجوء – الأرض – 48 – 67 – المخيمات – الشهداء –المقاومة – العدو المشترك – المصيرالواحد .فحين يصرح يوسف زيدان بأن المسجد الأقصى المقصود في القرآن الكريم كمكان لرحلة الإسراء والمعراج ، ليس هو الكائن حالياً في فلسطين ويستنتج أن القضية الفلسطينية هي قضية وهمية أصلاً  وأنه تم التلاعب بالفلسطينين واليهود، ينتقد الطرف الديني تصريح يوسف زيدان دفاعاً عن القضية الفلسطينية لكنه يعتمد في دفاعه على إثبات أن القدس إسلامية وهكذا يتم الإلتفات إلى مشكلة غير مؤثرة فسواءً كانت القدس إسلامية قبل ألف سنة أو لا لن يكون هذا مؤثراً في قضية تحرر وطني ،  من الواضح هنا وفي أمثلة أخرى أن الخطاب المتصهين يعتمد على بناء تصور مغلوط للقضية على أنها حق ديني مثلاً ثم ينتقدها بناء على هذا التأصيل  الخاطيء فيتبنى شعار التسامح وخصوصاً بالنسبة لقوى الثورة المضادة للربيع العربي ، هذا الخطاب لم يكن ليكون مهماً أبداً أو مؤثراً أو حتى يستحق أن يتم تناوله لولا أنه أصبح خطاباً رسمياً يصرح به رئيس دولة ويتناوله الإعلام باعتباره الخطاب الرسمي القادم للمنطقة عموماً بل ويشجع عليه .                                                                                      
وفي الفترة السابقة حين كانت القضية تدور في المسار الثالث: صراع منهك  – عدو قوي – ضغط دولي والتي تمت في وقتها معاهدة  السلام يمكننا ملاحظة أن  الخطاب المتصهين كان يتذرع بمفاهيم : أخذ راحة من المعارك – فوائد الاستقرار – فوارق التنمية والتعليم والتسليح بين العالم العربي وإسرائيل .ففي جواب الشيخ الشعراوي عن سبب مباركته للصلح مع إسرائيل أجاب : السبب الرئيسي في ذلك أننا منذ عام 1948 غرقى ، وهناك من يتفرج علينا فقط ،  فلم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل على العكس كل عام في النازل أكثر ! ( الشيخ الشعراوي وفتاوى العصر 1991) وفي إحدى الإعلانات التي نشرتها الشركة العامة للدواجن عام 1977 مؤيدة فيه توجه السادات لصناعة السلام افتتحته بآية وإن جنحوا للسلم فاجنح لهم، رغم أن المنشورات في المرحلة السابقة للسلام كانت تعنون بـ وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة .               هذه  التغيرات أوصلتنا إلى تجاهل مطلق للشعب الفلسطيني ومعاناته من خلال تجريد القضية إلى عناوين  عامة كالصراع الديني أو الصراع الدولي .

فلسطين ككذبة

وهنا نفهم  رعب دريدا، وكيف تلاعب الكذب السياسي بحقيقة القضية الفلسطينية ،  فقد تم إعطاء  مشكلة فلسطين عناوين  كاذبة لكنها رسمية وعلى مستوى الدولة وعملت قنوات الدولة على تثبيتها وإيجاد الحلول لهذه العناوين غير الحقيقية ، إن مشكلة فلسطين الحقيقية والصادقة هي أنها قضية تحرر وطني طالت أكثر مماينبغي لأسباب معروفة وواضحة ، أو كما يقول عزمي بشارة بأن علينا أن ننظر للقضية الفلسطينية خارج سياق التقدمية والرجعية باعتبارها قضية عدالة فقط .
إن الرعب الحقيقي هو من القادم فهذه الكذبات تم إطلاقها واعتمادها وتسويقها في الوقت الذي مازال الجيل الذي هجر من دياره حياً، الرعب فعلاً من الكذبات القادمة التي قد تقال للجيل العربي القادم  والتي قد تصل إلى الاعتذار واعتبار الشهداء الذين سقطوا مجرمي حرب ، لكن رغم كل هذا الكذب والخطاب الرسمي الذي يتبناه، إلا أن تجربة التحرر الوطني في العالم العربي علمتنا أن هؤلاء الكذبة كانوا موجودين دائماً كضرورة طفيلية يسقيها المستعمر وربما أخروا  نيل الإستقلال أو كانوا سبباً في امتداد الاستعمار لعدة أعوام أخرى إلا أنهم في النهاية سينسوا وسيكون التاريخ أحياناً شحيحاً حتى في تذكر أسمائهم.

Sunday, July 31, 2016

هل من عودة لعلم الاقتصاد إلى حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية ؟!



مي عبد الوهاب، مراجعة ولاء عبد الله

تمهيد

يقول إيمانيول ديرمان*" انني افهم حدود وصف وتحليل سلوك وعلاقات البشر المعقدة والسوق عبر افتراضات بسيطة ورياضية اى حسابية وعلى الرغم من محدوديتها, يظل علم المالية أكثر موثوقية من الاقتصاد!" هكذا عبر أشهر من يلقبون بالمهندسين المالين الذي هو بالأصل عالم فيزياء اتجه إلى عالم المال وبورصة وول ستريت حتى هذا الأخير وضع ثقته بمكان آخر غير علم الاقتصاد على الرغم أن المالية جزء من المنظومة الاقتصادية الحالية. تضع الأزمات الاقتصادية العالمية الأخيرة "علم الاقتصاد" ضمن تحديات جديدة في فهم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية التي تسببت في تفاقم أعباء الحياة على أفراد المجتمع العاديين، اللذين لا يملكون سوى بيع وقتهم لأرباب العمل في سوق تحكمه قيم التبادل وتشييء الانسان لبضاعة تباع وتشترى. وبعد فشل أدوات علم الاقتصاد الحالي المهووس بالمعادلات الرياضية في توقع الأزمات الاخيرة و التعاطي معها ومثال على ذلك أزمة 2008 التي عصفت بالولايات المتحدة والعالم الغربي بشكل خاص والتي استفاد منها الأغنياء أصحاب رؤوس الأموال (ذوي النفوذ) المتحكمين بالتلاعب بالنظام المالي الغارق في المنتجات والمشتقات المالية الحديثة بأنواعها، وذلك عن طريق استئجار المدراء التنفيذين للمحافظ الاستثمارية أصحاب الخبرة الكمية والتكنوقراطية المهتمين فقط بزيادة أرباح  كبار مستثمريهم لزيادة حصصهم التعويضية على حساب المجموعات الأخرى من المجتمع كذوي الدخل المتوسط، الغارقين في دائرة الديون  للاستمرار بعجلة حياتهم. وفي ظل الانفصال المستمر لعلم الاقتصاد عن العلوم الاجتماعية  الأخرى تزداد الفجوة بين الاقتصاد كعلم وبين ما يحدث في الاقتصاد على أرض الواقع. أهم ردود الفعل تجاه الأزمات الاقتصادية الأخيرة وموقف علم الاقتصاد منها هي الحركات الطلابية التي انتشرت في أوروبا والولايات المتحدة مؤخراُ المنادية بعودة الاقتصاد إلى حقله الحقيقي "العلوم الاجتماعية" والتي بدأت بطلاب جامعة مانشستر الذين ابدوا انزعاجهم من المناهج الاقتصادية التي يهمين عليها النموذج النيو-كلاسيكي(الارثوذكس) المتمركز حول نظرية التوازن بين العرض والطلب والنماذج الإحصائية المملة التي تتجاهل العلاقات المعقدة بين طبقات المجتمع والظواهر الاجتماعية التي تحكمها متغيرات انسانية ليست محدودة بعمليات الحساب الضرب والجمع فقط!

 ظهور علم الاقتصاد

ظهر علم الاقتصاد في أوروبا "كعلم" له مناهجه وأدواته الخاصة، مستقلٌ بذاته عن العلوم الأخرى في التحليل في أواخر القرن الثامن عشر أو منتصفه. سبقت ذلك عدة "كتابات" أو محاولات كتابة اقتصادية في القرون القديمة لتفسير بعض الظواهر الاقتصادية في سياقاتها التاريخية والسياسية المحددة, فأغلب مؤروخون الاقتصاد متفقين على وجود أفكار اقتصادية أو دعوات إلى اتباع "سياسات" اقتصادية معينة ولكنها لم ترقى إلى مفهوم "العلم". من أهم مؤسسي "علم الاقتصاد" آدم سميث، صاحب كتاب "ثروة الأمم" الذي يعد أهم الكتب في التاريخ الاقتصادي، ومن بينهم أيضا وليام بتي الذي كان بالأصل عالما طبيعيا، ومن هؤلاء الرواد الأوائل لعلم الاقتصاد يأتي الفيلسوف البريطاني الشهير ديفيد هيوم وهو من أهم المساهمين في استقلال الكتابة الاقتصادية "كعلم" من العلوم. وتستمر السلسة من ريكاردو إلى مالثس إلى جون ستيوارت ميل الذي نشر كتابه المهم عام 1767م بعنوان "مبادىء الاقتصاد السياسي" . ونحن هنا لسنا بصدد الخوض في التعاريف الإجرائية لعلم الاقتصاد وذلك للتميز الجوهري بين تلك التعاريف الاختزالية للظروف التاريخية والتحيزات السياسية وبين حقيقة نشأة ما يسمى بعلم الاقتصاد الذي كانت ظروف نشأته متلازمة مع بزوغ ما يدعى " بالرأسمالية الصناعية" أو كما يفضل أن يسميها البعض بالثورة الصناعية. وكما أن لكل عصر في التاريخ تحدياته وتحيزات طبقاته المهيمنة، فنشأة علم الاقتصاد كانت نتيجة لظهور تحيزات وأيديولوجيات جديدة لدى المشتغلين بالمسائل الاقتصادية. وجاءت هذة الرؤية الجديدة بسمات خاصة في النظر للظواهر الاقتصادية وصولا إلى تأسيس العلم المختص بتفسيرها وفهمها ثم استمرت التحولات في تلك الحقبة بتطبيع "علم الاقتصاد" كما هو الآن بمختلف مدارسة وأفكاره. وعالم الاقتصاد هو في نهاية الأمر مثله كباقي العلماء من البشر لا يرى الأشياء نقية من أفكاره وتصوراته المسبقة التي تسمى في بعض الأحيان أسلوب أو نمط في التفكير قد تكون متضمنة حكما أخلاقيا أو جماليا التي إذا تراكمت كونت قيم بدورها تخلق نسقا فكريا وموقفا متكاملا من الحياة والمجتمع على حد سواء، وبذلك يطلق عليها "الأيديولوجية". ومن بين هذه الأفكار المسبقة التي تكون الأيديولوجيا في نطاق علم الاقتصاد، الميل مثلا إلى الاعتقاد بأن التدخل الحكومي سيء للاقتصاد ورفاهية الفرد، أو العكس الميل إلى أن التدخل الحكومي مهم وضروري لضمان استمرارية واستقرار الاقتصاد أو أيضا التأكيد على فكرة أن الناس بطبعهم أنانيون ولا يسعون سوى لزيادة مصلحتهم الشخصية على حساب الآخرين. والعلم الحديث لا ينفي إمكانية التحيز بل يقرها في كثير من طرق البحث العلمي ولكن ما يدعو إليه أو ما يطلبه من الباحث دائما هو ألا يجعل تحيزه يقوده إلى التأثير على نتيجة سير البحث التي يعلنها و إن كان هذا الأخير ليس سهلا. و بالرغم من إمكانية توفر هذة الخاصية في حكام مباريات كرة القدم – على سبيل المثال- كنظام مغلق أو في العلوم الطبيعية، فإن توفره في غاية الصعوبة عند التعاطي مع المتغيرات الاجتماعية والإنسانية.


تحيز علم الاقتصاد وهيمنة التوجه الواحد

 لم يكن من المستغرب في عصر يسوده الانبهار بالثورة العلمية التي كشفت خبايا العالم الطبيعي, والثقة الكبيرة بقدرة العلم على توقع المستقبل ومن ثم قدرة الانسان على زيادة سيطرته على الطبيعة لخدمة مصالحه, أن تتجه أذهان المهتمين بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،  إلى استخدام تلك النماذج والمناهج الطبيعية لكي تطبق على المجتمع والسياسة والاقتصاد. وكان أوائل من حاول ذلك هو الفيلسوف توماس هوبز، وفي النقد الاجتماعي جان جاك رورسو ومونتسكيو.
كانت هناك ثلاث عوامل تاريخية رئيسية ساهمت في تكوين تحيزات مختلفة " لعلم الاقتصاد" أولها نمو العلوم الطبيعية، ونمو الصناعة وبالتالي نمو الطبقة الوسطى. واستمرت عملية التراكم العلمي التي أدت إلى تقدم تكنولوجي زاد من معدلات الإنتاج الصناعي، وظهرت تبعا لذلك مشاكل جديدة حفزت على زيادة الطلب على التعليم العلمي والصناعي، وطرحت اسئلة جديدة تحت علم الاقتصاد، ما الثروة؟ ما عناصرها؟ كيف تتكون؟ المنافسة الكاملة أم الاحتكار؟ أسئلة لم تكن لتطرح قبل ظهور نمط الانتاج الرأسمالي، وفي ظل هذا المناخ الذي يقدس العقل في كل مناحي الحياة أتاحت الفرصة ظهور مجتمع صناعي طبقي، تسوده قيم الطبقة الصاعدة أو بشكل اخر تزداد قيم هذه الطبقة قوة ونفوذا في كل يوم وتخلق تطلعات معينة فيما يتعلق بمستقبلها ومصالحها الاقتصادية، وهذا الصعود بطبيعة الحال ادى الى صعود اجتماعي وسياسي. نستطيع فهم ظروف نشأة "علم الاقتصاد" في فترة تاريخية محددة التي سبق ذكرها والتي تحمل سمات اقتصادية واجتماعية وثقافية خاصة جدا ومن الصعب تخيل تكرار هذة الظروف في حقب تاريخية اخرى او بلاد غير اوروبية يحكمها نمط انتاج مختلف عن النموذج الرأسمالي للانتاج. ومن المهم أيضا ملاحظة أن هذة السمات قد لاتكون لها علاقة بالعلم وموضوعيته وحياده بل من الممكن جدا أن تكون سمات تعكس تحيزات وأهواء مجتمع أو طبقة معينة ولا يخفى على دارس الاقتصاد في عصرنا الان ان يلاحظ استمرارية وانعكاس تلك السمات المهيمنة على مناهج "علم الاقتصاد" والتي عادة ما تسمى بمنهج الاقتصاد الأرثوذوكسي أي مدرسة الاقتصاد النيوكلاسيك (Neo-Classical) المعتمد على افتراض العقلانية في دراسة النشاط الاقتصادي ولا يقر بان هناك حالات كثيرة قد تكون"لاعقلانية" وخاصة تلك التي تحكم تصرفات المستهلكين وقراراتهم المتعلقة بنوع البضائع أو الخدمات التي يقومون بشرائها وغالبا لا تتوافق مع القانون القائل " بتعظيم العائد الصافي"، وهنا يداهمنا السؤال لماذا تركيز الاقتصادي الارثوذوكسي على بحث الجانب "العقلاني" للنشاط الاقتصادي أليس من الممكن ان يكون نتيجة تحيز أو أيديولوجية مسبقة أو أيديولوجية مهيمنة؟!

المدرسة التعددية(Pluralism or Heterodox Economics) كنوع من المقاومة وردة الفعل

بعد الأزمة الاقتصادية 2008 وأزمة ديون اليونان الأخيرة ظهرت موجات وحركات جديدة طلابية بشكل خاص وبين أوساط النشطاء والأكاديمين بشكل عام في أوروبا  والولايات المتحدة تنادي بتغير مناهج وطرق تدريس الاقتصاد التي باتت مستعبدة من قبل النموذج الرياضي وحده كما عبر عنه الاقتصادي الياباني تاكاميتسو ساوا الذي بات التشكيك في صحتها أو صلاحيتها يعد وكأنه نوع من الاعتراض على تشريع ديني ثابت لا يقبل النقد والتساؤل. ومن أبرز الامثلة لتلك الحركات مجموعة Rethinking Economics  في بريطانيا ومجموعة Netzwerk Plurale Ökonomik في ألمانيا. أما في أمريكا فقد قام مجموعة من الباحثين والمهتمين بتأسيس معهد لتجديد التفكير الاقتصادي Institute for New Economic Thinking، كما قامت نتيجة لتلك الحركات المقاومة للمنهج الاقتصادي الأرثوذوكسي بعض الجامعات بتغير مناهج تدريسها مستجيبة لتلك الدعوات وإن كانت لا تزال ناقصة وذلك عن طريق اقحام المناهج التعددية، اي تدريس المدارس المختلفة للاقتصاد او ما تقع تحت مسمى هيترودوكس Heterodox Economics  الذي هو بدوره عكس التوجه الأرثوذوكسي المهيمن في التحليل الاقتصادي حيث يدرس تحت الاقتصاد الهيترودوكسي واقع الاقتصاد من زوايا مختلفة في سياق مجتمعي لا ينفصل عنه، بل يستعين بجميع التخصصات والمدارس الأخرى لفهم الظواهر الاقتصادية والأزمات ولا يختزلها في مدرسة أو  توجه واحد، ويعتبر مظلة تغطي العديد من الأنماط والمدارس شاملةً المدرسة الماركسية والنسوية والكينزية وما بعد الكينزية بالإضافة إلى المدرسة التطورية ومدرسة الاقتصاد البيئي وغيرها من المدارس الاخرى. وقد بادرت عدة جامعات في اوروبا وأمريكا* بتدريس المنهجية التعددية في الاقتصاد. ومن الملفت للنظرأن الجامعات المبادرة ليست من الجامعات المعروفة ذات الصيت الأكاديمي والتصنيف القوي، أمثال هارفارد وبرينستون أو ستنافورد وبيركيلي! وتكمن أهمية دراسة الاقتصاد عن طريق المنهجية التعددية في فتح باب رؤية واسعة تسطيع استيعاب التحيزات المختلفة وطريقة هيمنتها وسيطرتها في أطر سياسية مختلفة، حيث ستكون مقدمة لأشياء أخرى بالغة الأهمية تتجاوز دائرة القضايا الاقتصادية وليس ذلك فحسب إنما تفتح باب الأمل في تحرير "علم الاقتصاد" و أنفسنا من التبعية التي خلقها النظام الإمبيريالي الرأسمالي العالمي، وتحريره أيضا من قيود حكمته لأكثر من ثلاث قرون رغم المحاولات المقاومة, بل قد يساهم أيضا في إبراز التحيزات السياسية للدول الغربية المهيمنة ومؤسساتها على القرارات السياسية ومثال على تلك المؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيره من المركزيات التي تتحكم بمصائر أبناء الثقافات المختلفة من جميع أنحاء المعمورة ونختم بمقولة الاقتصادي الياباني تاكاميتسو ساوا " لا يمكن لقسم الاقتصاد أن يستعيد وجوده إلا إذا عمل على استعادة العلاقة مع العلوم الانسانية والاجتماعية واستخدم علم الرياضيات باعتبراه الآداة التي يجب استخدامها عند الضرورة"



مراجع وروابط مفيدة:
1.      Economics as a Social Science by Piet Keizer, Utrecht School of Economics, 2008
2.      د. جلال أمين, فلسفة علم الاقتصاد



Thursday, June 30, 2016

قراءة ديفيد هارفي لكتاب توماس بيكيتي: رأس المال في القرن الحادي والعشرون


قراءة ديفيد هارفي لكتاب توماس بيكيتي رأس المال في القرن الحادي والعشرون

ولاء عبد الله، مراجعة: مي عبد الوهاب

رأس المال في القرن الحادي و العشرين

انتشر بين الأوساط الاقتصادية نقاش غير مسبوق حول الرأسمالية و قضايا اللامساواة الاقتصادية، و ذلك بعد كتاب "رأس المال في القرن الحادي و العشرين"، الذي نشر بالفرنسية عام 2013 و تبعته النسخة الإنجليزية في 2014. الكتاب نتيجة مجهود الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي[1] وعدد  من الأكاديميين الاقتصاديين، و هو عبارة عن سرد تاريخي لتوزيع و تركيز الدخل القومي و الثروة الوطنية لعشرين دولة خلال الثلاثة القرون الماضية. ربما لم يأتِ الكتاب بجديد فيما يخص أن النظام الرأسمالي عزز فجوة اللامساواة و باعد أكثر بين الطبقة العليا و الدنيا، و لكنه ناقش هذه الحقائق من منظور جديد مستندا إلى قاعدة البيانات التي حصل عليها خلال بحثه. بالرغم من أن الكثير ربطوا بحث بيكيتي بمشروع ماركس، و منهم من وصفه بالماركسي، إلا أن بيكيتي ينفي تأثره و حتى قراءته لأعمال ماركس، و نحن في هذا المقال، نستعرض قراءة نقدية من أبرز المفكرين الماركسيين المعاصرين، ديفيد هارفي، يوضح فيها بعض المآخذ على "رأس المال في القرن الحادي و العشرين".

ماذا نستنتج من "رأس المال في القرن الحادي و العشرين"؟


حينما يوفق خريج جامعة مرموقة في الحصول على وظيفة في البنك الذي يعمل فيه أحد أفراد أسرته، بينما يغرق شاب من طبقة أدنى في عرقه في موقع أعمال إنشائية، فإن ذلك ليس محض صدفة، وإنما  نتيجة طبيعية تفرزها لنا الرأسمالية و نشهدها يوميا بمختلف المستويات. إن مسألة اللامساواة ليست قضية حتمية بفعل الطبيعة الكونية أو القدرة الإلهية، و ليست نتيجة طبيعية لاجتهاد طبقة معينة في المجتمع أكثر من أخرى، بل هي نتاج نظام اقتصادي يحتكر حركة الثروة في الاتجاه للأعلى فقط، حيث يزداد الغني غنا و يُترك الفقير دون أي فرصة للحاق بركب التحرك أو التنقل داخل المجتمع تجاه فرص أفضل بنفس السرعة لأفراد طبقة أخرى في نفس المجتمع، أي ما يسمى بـ( سوشال موبيليتي[2]) . يهدف بيكيتي إلى تقديم بحثه كدليل تاريخي قاطع على ذلك، و يحاول تحليل العوامل الاقتصادية، السياسية و الاجتماعية العديدة التي أثرت في تطور حركة رأس المال منذ الثورة الصناعية. هذا التفاوت في حجم الثروة يمكن إسناده إلى العلاقة بين العائد على الدخل و معدل النمو(r>g). تاريخيا، تعدى معدل عائد الدخل معدل النمو و كان هذا هو العامل الأساسي لخلق التفاوت المذكور. بمعنى أن النمو المتسارع في مجتمع ما يقلل من أهمية تمركز الثروات، بينما تظهر الإشكالية عند تباطؤ معدل النمو. يخبرنا بيكيتي أن التفاوت في توزيع الثروات، رغم تضخمه بفعل الرأسمالية، ضروري لدفع عجلة النمو، لكن دون أن يصل هذا التفاوت لفجوة كبيرة تتحول إلى عقبة اقتصادية و اجتماعية. القراءة التاريخية الممتدة إلى القرن السابع عشر توضح أيضا نزول معدلات اللامساواة بعد الحربين العالميتين، و هو ما جاء نتيجة لظهور الطبقة ذات الدخل المتوسط. أحد الأمثلة التي تم استعراضها هو ازدياد حصص طبقة الدخل الأعلى ما بين 1980-2010م. كان ذلك جراء تصاعد اللامساواة في أجور الطبقة العاملة. في هذه الفترة كانت الطفرة التعليمية في الولايات المتحدة و التي لم يكن للجميع فرص متساوية للحصول على نصيب منها نظرا للرسوم الدراسية الباهظة و الاستثمار الحكومي غير الكافي، في الوقت الذي قفزت فيه التعويضات المالية لمديري الشركات و تقلصت الضرائب على ذوي الدخل الأعلى. على ضوء ذلك انتقد بيكيتي بشدة النظام التعليمي الحالي الذي يشكل أبرز عقبة في زمننا الحالي أمام تسلق شباب الطبقات الدنيا لسلم حرية التحرك الأجتماعي. في الفصل الأخير، يقدم بيكيتي مقترحات مع
التأكيد على أنه لا يهدف إلى تقديم نموذج حل و إنما يعرض أفكاره للنقاش الذي يساعد في توضيح آلية تحرك وتوزيع الثروات
.مما سيؤدي لفهم أدق و حلول أصلح
كمقترح، يتحدث بيكيتي عن ضريبة على الثروة العالمية تصل إلى اثنين في المائة وضريبة تصاعدية على الدخل تصل إلى 
ثمانين في المائة. و يدعو إلى خلق نظام دولي يدعم شفافية المؤسسات المالية، و يسمج بتوثيق معدلات النمو و حجم الثروات، بدلا من الاعتماد على البيانات المقدمة من البنك الدولي فقط. 


  

كيف يرى ديفد هارفي[3] "رأس المال في القرن الحادي و العشرين"؟

في مقالة نشرت على موقعه الشخصي، فصّل ديفيد هارفي وجهة نظره حول كتاب "رأس المال في القرن الحادي و العشرين" في عدة نقاط نذكر أهمها. يثني هارفي على المجهود الكبير في الكتاب ويخص بذلك طريقة جمع و عرض البيانات ثم يصف مقترحاته الأخيرة باليوتوبيا، وذلك لأنها "غير ممكنة" سياسيا. ففي ظل المشهد السياسي العالمي الآن، يصعب أن نتوقع حديثا نحو فرض ضريبة على الثروة العالمية أو الدولية. رأس المال في القرن الحادي و العشرين" لم يتحدث فعليا عن رأس المال، تكونه و حركته، بل جعله متمثلا في فئة معينة من الأصول التي يمكن تداولها. يرى هارفي أن رأس المال هو وصف "عملية" كما تم وصفه مسبقا من قبل ماركس أكثر من كونه مادة، و أننا في محاولة فهمه يجب أن نفككه إلى أجزاءه الأصغر و ندرس علاقتها ببعضها و ما ينتج عن تفاعلها. فرأس المال- كما يعرفه هارفي- هو عملية تدوير المال لكسب مال أكثر من خلال استخدام اليد العاملة. بالتأكيد لم تكن هذه العدسة التي نظر من خلالها بيكيتي لرأس المال كموضوع، بل ركز في مجمل بحثه عن قضية التفاوت في توزيعه "كمادة". يفترض هارفي أن بحثا كهذا كان من المفترض أن يجيب عن تساؤلات ذات علاقة بالنظام المالي الرأسمالي كأزمة 2008 بتبعاتها و أن يقدم فهما وافيا لعوامل حدوثها و تباطؤ التعافي منها حتى يومنا هذا، كما و على مستوى دولي، كان من المفترض أن يفسر سبب تفاوت معدلات النمو بين الدول، فالولايات المتحدة تمر بركود مقارنة بالنمو السريع للصين، في حين تواجه أوروبا تحديات اقتصادية مختلفة، و كأنه هنا يلمح إلى الدور السياسي الذي لم يأخذه بيكيتي بعين الاعتبار. يستعين هارفي بسياسات مارغريت ثاتشر كمثال، و التي كان الهدف منها إضعاف القوة السياسية للطبقة العاملة. منذ ذلك الوقت، و الفجوة تتسع، و باتساعها يضعف من هم في القاع أكثر. و بهذا يمكننا تفسير العلاقة الرياضية التي استنتجها بيكيتي دون أن يعللها، بالعوامل السياسية و باختلال الميزان بين رأس المال و القوة العاملة. هذا الاختلال استمر مع تطور التكنولوجيا التي استبدلت القوة العاملة بالمعدات و العولمة التي سهلت استئجار عمالة أرخص، بالإضافة إلى تمركز القوة السياسية في يد الطبقة العليا، دون أي سلطة أو تأثير و ربما دون حضور للطبقة العاملة.  لذا، فإن تأكيد هذه الحقيقة من خلال استعراض بيانات الدخل و الثروة على مدار الثلاثين عاما الماضية لم يصل بنا إلى نتيجة جديدة، بل إن هذه النتيجة المحققة تحدث عنها و حذر منها ماركس في الجزء الأول من كتابه. إذا، فالمسألة هنا لا تقتصر على لا مساواة مجردة من سياقها التاريخي و السياسي و محصورة في تعرفيها بأنها نتيجة اقتصادية، بل هي في الواقع مؤشر ملموس وحقيقي على صراع الطبقات، و كما قال وارن بافت، رجل الأعمال الأمريكي المعروف، "بلا شك، هناك صراع طبقات، و الطبقة التي انتمي لها، طبقة الأغنياء، هي من ستنتصر". عندما انخفضت الضرائب على الأرباح على رأس المال عام 1980 م في الولايات المتحدة، لم يكن ذلك بفعل أي قانون رياضي، بل لعبة سياسية بحتة. من جهة أخرى، يجب ألا نغفل عن أن عصر أجور الطبقة العاملة ينعكس في انحصار الطلب في الأسواق، حيث يكسب العامل من العمل على منتج أقل مما يكلفه هذا المنتج. و هنا تقع الرأسمالية مأزق آخر، بحسب ماركس.

"رأس المال" في القرن التاسع عشر لماركس، و "رأس المال" في القرن الحادي و العشرين لبيكيتي، يجعلاننا أمام حقيقة مؤلمة، و هي أن الأمور تؤول لما هو أسوأ وأعقد، و أن القضايا الملحة لا زالت تتطلب منا الكثير من البحث و الأكثر من الفهم الدقيق، لذا يجب علينا إدراك أنه لم يعد من الممكن تناول القضايا الاقتصادية بمعزل عن سياقها الاجتماعي و السياسي، بل إنه من الملح فهم كل السياقات المتداخلة لضمان اكتمال الصورة. و في قضية اللامساواة تحديدا، تلعب هذه القوى دورا كبيرا في توجيه القضية نحو السيطرة عليها أو تفاقمها.


         


مراجع:

مقالة ديفد هارفي

رأس المال، كارل ماركس، 1887م
رأس المال في القرن الحادي و العشرين، توماس بيكيتي، 2014 م
مراجعة الإيكونومست لكتاب "رأس المال في القرن الحادي و العشرين" 

موسوعة بيكيتي http://www.wid.world/





[1] توماس بيكيتي
مدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية و أستاذ في مدرسة باريس للاقتصاد. صدر له الكثير من المقالات العلمية و عرف مؤخرا بكتابه "رأس المال في القرن الحادي و العشرون
[2] Social Mobility هو وصف لحركة الافراد او الأسر او فئات معينة من الناس داخل مجتمع في سياق طبقي من نظام مفتوح من الطبقات الأجتماعية

[3] ديفد هارفي
أكاديمي بريطاني، يعمل حاليا  كمحاضر في علم الإنسان بمركز الدراسات العليا لجامعة مدينة نيويورك. درس الانثروبولوجيا و الجغرافيا. له حلقة لتدارس كتاب ماركس "رأس المال" مستمرة على مدى 30 عاما.


Monday, May 16, 2016

سنة الأحلام الخطيرة - سلافوي جيجيك





قراءة في كتاب سنة الأحلام الخطيرة
سلافوي جيجيك

قراءة علاء با مطرف, مراجعة مي عبد الوهاب

كتب جيجك في محاولة لفهم عام 2011 كسنة للأحلام لكنها الأحلام الخطيرة بحسب وصفه وبحسب ما سيبين , من المعلوم أن الأحداث كانت سريعة ومجنونة سبقت الجميع إلى نموذج غير متوقع وغير مفهوم لحظتها, وهذه إحدى المحاولات للقراءة والتحليل, كان انتقاد العديد من القراء لجيجيك أنه لم يقدم وصفة علاج جاهزة, لكن المفارقة أن ملايين المتظاهرين لم يملكوا أصلاً مطالب واضحة ولم يقدموا وصفة علاج, ربما مازال الوقت مبكراً للخروج من الأحداث التي اجتاحت العالم في وقت واحد وبدت على البعض مثل الجنة المنتظرة وشاهدها آخرون  كأنها يوم القيامة, إن جيجيك هنا يحاول أن يقدم محاولة لفهم اللحظة التي غرقنا فيها جميعاً .
 يبدأ من محاولة فهم الرأسمالية الحديثة وتشكلاتها , إلى قراءة الأحداث العالمية من اليونان إلى المجر إلى حركة احتلوا وول ستريت إلى الربيع العربي , ويحلل مسلسل the wire باعتبار موضوعه عن النضال الطبقي, و يدافع  عن فلم 300 حيث هوجم الفلم باعتباره مثال على العسكرة الوطنية السيئة وإحالات واضحة للنزاعات الحديثة مع إيران والعراق , (( يمكن أن يدافع عن الفيلم بقوة في مواجهة هذه الاتهامات, إنها قصة دولة صغيرة اليونان تم غزوها من قبل جيش دولة أكبر منها فارس وفي هذا الوقت كانت أكثر تطوراً وبتكنولوجيا عسكرية أكثر تقدماً, أليست أفيال الفرس وعمالقتها وسهامها الكبيرة المحرقة هي النسخة القديمة من التسليح عالي التقنية ؟ ))
يقدم جيجيك تحليله الماركسي للأحداث  لكنه لا يقع في الجبرية التي وصف بها ماركس تطور الرأسمالية وربط علاقات الناس بها, يرى جيجيك أننا وصلنا إلى مرحلة صرنا نواجه فيها مشاكل ليس لها حلول لكنه يتخذ خطوة يرى أنها الأولى والمتاحة وهي التركيز على اللحظات المنفردة التي هي أعراض للأزمة الإقتصادية كمحاولة لفهم الطبيعة الكلية للمشكلة, وهوهنا  يقدم قراءة تحاول أن تخرج من الإطار العام الذي حاول تحييد الأحداث للخطاب الرأسمالي المهيمن تحت شعار الحريات والديمقراطية, يعيد القراءة من خلال النظرة العامة للأحداث متجاوزاً هويتها الوطنية الضيقة .

الإنفجار المعلوماتي .. عودة للشيوعية أم تطور للرأسمالية ؟

الإنفجار المعلوماتي هو أحد أهم التحولات في العصر الحديث, اتسعت فيه المساحة المتشاركة, المعرفة المتبادلة, الإتصال, لم يعد العمل مجرد عمل مادي .
يقرأ جيجيك هذا  الإنفجار من خلال رؤيتين متضادتين: الرؤية الرأسمالية الأيديلولجية التي تعتبر هذا التحول كشكل لتطورالرأسمالية من التراتبية الهرمية إلى التنظيم الذاتي, والرؤية الماركسية الأخرى والتي قرأها من خلال أطروحة هارد ونيجري حول إمكانية إستخدام هذا الشكل المتطور لرأسمالية الشركات ليكون إشتراكية داخل الرأسمالية .
يعترف جيجيك أن الرأسمالية نجحت في خصخصة المعرفة العامة على المستوى القريب وأن الإنفجار المعلوماتي كان من أسباب سقوط الإتحاد السوفييتي نموذج  الشيوعية التقليدية , لكنه لا يرى أيضاً  أن هذا التطور هو شكل من أشكال تطور الرأسمالية بل هو مجرد تغيير في الأسماء , صحيح أن البرجوازية القديمة لم تعد مؤثرة أو فاعلة في النظام الرأسمالي الحديث, لكن هذه الطبقة تم إستبدالها بطبقة من المدراء المستأجرين, هذه الطبقة الجديدة ملائمة لفائض القيمة الذي يعتبر مرتكز البرجوازية التقليدية و الذي يصبح فائض الأجر, حيث يبرر كما يقول بـ : ((لذلك يكون التقييم العلمي الزائف هو الذي يبرر مكاسبهم العالية )) .
ثم يطرح خطاب أنسنة الرأسماليةعلى أنه اعتراف بأنها وحش يتسبب في مشاكل الحروب وتدمير الطبيعة لكن السوق يحتاجه لتوليد الأرباح والثراء فلهذا تنشأ محاولة الأنسنة حيث علينا أن نحافظ على الوحش مع محاولة ترويضه ثم يطرح السؤال:((هل اللعب مع الوحش الرأسمالي هو حقاً اللعبة الوحيدة المتخيلة في النطاق ؟)) مؤكداً على أن محاولات أنسنة الرأسمالية هي مجرد  إسهام في العملية المطلوب قلبها. وهنا يناقش الخطاب الذي تروج له الرأسمالية الحديثة كشعار لها, ألا وهو خطاب الحريات , ويعيد قرأته كتهرب من تصريحهم بدعم الفقراء, حيث يصبح الصراع من أجل حقوق المرأة والجنسانية وتعدد الثقافات معتبراً أن الحرب الثقافية هي حرب طبقية في حالة إزاحة (( الطبقة الحاكمة ترفض الأجندة الأخلاقية للشعبويين فهي تتسامح مع الحرب الأخلاقية لأنها تعني الحفاظ على الطبقات الدنيا تحت السيطرة )) نافياً أن تكون هناك فائدة من الإختلاف  الثقافي  على العمليات الإجتماعية المعاصرة, إذ تبدو أنها مجردة في سياق منفصل وهذا ما لايمكن, جالباً الرهان الماركسي على وجود نضال طبقي يتمركز ككلية ثابتة, لا ينفي جيجيك هنا الصراعات الأخرى لكنه يردها لقراءة بنيوية :(( إنه لا يعني أن النضال الطبقي هو المرجع المطلق وأفق المعاني لكل النضالات الأخرى, إنه يعني أن الصراع الطبقي هو المبدأ البنيوي الذي يسمح لنا بأن نعتمد على الشمول المتناقض ))  مؤكداً على الفرق بين النضالات المختلفة تحت الليبرالية حيث الهدف هو تحويل التناحر إلى اختلاف ومشاركة سلمية للأجناس والديانات والمجموعات العرقية, بينما النضال الطبقي يريد تحويل الاختلافات الطبقية إلى تناحرات, في الليبرالية النضالات المعادية للعنصرية والجنسانية مقادة بالكفاح من أجل الإدراك الكامل للآخر أما النضال الطبقي فيستهدف إبادة الآخر أي التخلص من وظيفة البرجوازية الإجتماعية والسياسية.
يقرأ الحركات الشعبوية الجديدة في إطار معاداة الرأسمالية  فالخيار أمام اليونانين مثلاً صار عليك أن تأخذ الأخلاق الليبرالية الجديدة التي تكفل الحقوق والحريات مع حزمة لا تنتهي من القروض لن تفعل إلا إنهاك اليونان, فصار الطرف الآخر يرفض القروض بنزعة قومية ضيقة تنسف منظومة  الحقوق والحريات, (( قهوة الإحياء الديمقراطي, يمكن فقط أن تقدم بدون كريمة اقتصاد الليبرالية الجديدة )) وفي موضع آخر يتسائل : (( ولكن ماذا لو حصلنا على الديمقراطية وبقي الفقر, ماذا بعد ؟)) .
يرى جيجيك أن الطريقة الوحيدة للخروج من لعبة الأخلاق الليبرالية كما يسميها حيث نحاصر بسؤال التسامح, إلى أي حد يمكننا أن نضل متسامحين؟!, لن يكون إلا بالصراع من أجل مشروع عالمي مشترك للجميع ممثلاً بواقعة حدثت حيث انضمت مجموعة من اليهوديات المثليات للنساء الفلسطينيات المتظاهرات ضد الجدار, عدم الثقة الأولي المشترك ذهب مع أول مواجهة أمام الجنود الإسرائيلين (( لا تحترم الآخرين ولكن قدم لهم نضالاً عاماً , طالما أن أكثر المشاكل ضغطاً اليوم هي مشاكل نتشارك فيها )) .
تحت فصل بعنوان (( مرحبا في صحراء مابعد الأيديولوجيا )) يستمر في نقد الشعارات الرأسمالية, ناقداً أخلاقيات المتعة الجديدة, ينطلق من تمييز لاكان بين المتعة واللذة  فالمتعة هي فائض مميت أكثر منه لذة, حيث اللذة معتدلة ومضبوطة, تسوق الأخلاق الليبرالية لنفسها كأخلاق فتحت مجالات المتعة وتجاوزت الأخلاق التقليدية, لكن جيجيك يرى أن الرأسمالية استبدلت المحظورات القديمة بأخلاق الصحة الجديدة حيث كل شئ مباح طالما أنه يمارس بشكل صحي الكولا بدون كافيين, الجنس لكن بضوابطه الصحية, وهذا يجرد مبدأ المتعة من حقيقته (( المتعة منزوعة الكافيين التي نحصل عليها بالتالي هي شيء مشابه للمتعة )) يمثل بالتدخين الذي كان متاحاً ومشجعاً عليه بالإغراء أصبح محارباً نظراً لأنه يحارب الصحة .
ينتقل لقراءة مظاهرات لندن التي انفجرت بالعنف بدون أي مطالب مقدمة ولم يستطع أحد تفسيرها حيث النتيجة صفر لمحاولة الفهم (( الحقيقة الحزينة التي تقول إن معارضة النظام لا تستطيع أن تفصح عن نفسها في صورة بديل واقعي أو مشروع يوتيوبي متماسك على الأقل ولكنها فقط تأخذ شكل الاضطراب الخالي من المعنى, هي مؤشر خطير لعصرنا )) يقرأ جيجيك الأحداث على أنها صراع بين المتظاهرين الذين لا يملكون شيئاً ليخسروه وبين أصحاب المحلات الذين لديهم كل شيء ليخسروه, معتبراً الاضطرابات كرنفالا إستهلاكياً للهدم, (( أنتم تدعوننا إلى الاستهلاك بينما تجردوننا على الفور من إمكانية فعل ذلك بشكل منضبط لذلك نفعل ذلك هنا بالطريقة الوحيدة المتاحة لنا )) .
القراءة العامة لمظاهرات اليوم :

يرى بأنها شكل من أشكال الصراع داخل البرجوازية المستأجرة, حيث أصبح هناك تفاوت داخل هذه الطبقة في الأجر بين مجموعة ستنحدر إلى طبقة العمال ومجموعة أخرى تزداد مرتباتها وفوائدها, هذه الطبقة  التي تتنوع بين مدراء الشركات والشرطة والمدرسين وغيرهم من أصحاب الوظائف المضمونة و ذات الإمتياز, التظاهرات في الحقيقة لا تعكس الطبقة العاملة التي لم تعد قادرة على الإضراب اليوم حيث تحول أمان الوظيفة إلى امتياز, صحيح أن المظاهرات تقاد في الظاهر ضد المنطق الوحشي للسوق لكنها في داخلها تخفي قلقاً لطبقة البرجوازية المستأجرة من تأثير السوق على أجرها وأن تعود إلى الحد الأدنى من الأجر .
يشير إلى إمكانية راديكالية أكبر يمكن قراءتها وتوجيهها ويعطي وصفاً عاماً للحالة المشتركة التي طبعت التظاهرات,  حيث يصفها بأنها غضب أصيل لم يستطع تحويل نفسه إلى برنامج إيجابي (( روح ثورية بدون ثورة )), وأن النغمة السياسية الواضحة هي اللاسياسية, محذراً من الإعجاب باللحظات السامية للوحدة الوطنية حيث السؤال الأهم ماذا سيحدث بعد ذلك ؟ على التظاهرات أن تكون البداية وليست النهاية (( هذا ليس كافياً إذن .. على المرء أيضاً أن يبدأ في التفكير بجدية عما يريده من وضع التنظيم الاقتصادي المهيمن, أن يتخيل ويجرب أشكالاً بديلة من التنظيم ))   
  فعن تظاهرات إيران 2009 حيث يرى أن آية الله الخميني فقد وضعه كزعيم روحي وظهر كسياسي انتهازي وأن القوى التي خبت بعد ثورة 1979أي عودة المكبوت من ثورة الخميني كما يقول والتي تجابه السلطة المتهورة التي تقلق الملالي تقف خلفه طبقة جديدة من محدثي الثراء ممثلة بالحرس الثوري (( فمن المهم جداً أن نضع في ذهننا أننا شهدنا حدثاً تحررياً عظيماً . حدث لم يخضع لإطار النضال بين الليبرالين المؤيدين للغرب والأصوليين المعادين للغرب )) .
وقدم تحليله لردة فعل الغرب تجاه الربيع العربي حيث قدم الغرب مشروعاً واضحاً في تونس ومصر لكنه تجاهل سوريا وليبيا ثم تدخل عسكرياً في ليبيا وتردد في سوريا, ويصف ردة الفعل الغربية بالإنتهازية والعار ناقلاً قول توني بلير عن مصر أن التغيير ضروري ولكن يجب أن يبقى مستقراً (( سيتم إخبارنا مراراً وتكراراً أن الانتفاضات الشعبية في الدول العربية وكما هو واضح في إيران تنتهي دائماً بانتصار الاسلام المسلح, بالتالي سيظهر مبارك بأثر رجعي على أنه الأقل شراً والرسالة المتبقية الواضحة من الأفضل الإبقاء على الشيطان الذي تعرفه أكثر من أن تلعب مع التحررية )) مع العلم أن تنبأه سبق سير الأحداث حيث صدر الكتاب عام 2012 .
في محاولته لإيجاد المخرج يرى أن على القوى الليبرالية أن تتحالف مع اليسار الراديكالي لأن إخماد شعارات العدالة الإجتماعية وحصرها في الحريات السياسية سيفتح ثغرة للقوى الدينية حيث ستكون هي البعد الإجتماعي الوحيد للتحرر من سيطرة الرأسمالية, و سيدفع الوضع الاقتصادي الملايين من الجائعين إلى الشارع عاجلاً أو آجلاً .. 




الاسلام كماركسية للقرن الواحد والعشرين ..

ينطلق من قلب الشعار الذي وصفت به الماركسية على أنها إسلام القرن العشرين مستعيراً مقولة آندري تاجويف أن الإسلام باعتبارعنفه المضاد للرأسمالية يتحول إلى شيوعية القرن الواحد والعشرين, وفي تعليله  لصعود الفاشية الاسلامية والحركات الأصولية يردها لفشل اليسار (( ولكنه دليل فوري على أن هناك ثورية كامنة, عدم رضا لم يكن اليسار قادراً على تحريكه )), يؤكد جيجيك أكثر من مرة على أن المضمون الراديكالي في الاسلام ليس متوهماً وأن الخطاب الغربي الذي يركز على معاملة المرأة في الإسلام  يمكنه أن يجد شيئاً مختلفاً تحت السطح البطرياركي, حيث الفن والفلسفة كانت جزءاً من الحياة الطبيعية للناس في الاسلام  بعكس الغرب الذي كان الفن فيه محصوراً للطبقة المترفة, يمثل بقائد ثورة هاييتي[1] التحررية جون بوكمان أي رجل الكتاب حيث لفظ الكتاب يشير للقرآن ومستشهداً بثورة الزنج ودولة القرامطة, مطلقاً  عليها الثورات الشيوعية في الاسلام, (( لنجد الاسلام الجيد فنحن لسنا بحاجة لنعود إلى القرن العاشر نحن نجده هنا متكشفاً أمام أعيننا )) 

 لعبة الدولة والطبقة:

ينطلق من قراءة ثورة 1848 حيث استنتج ماركس أن التمثيل السياسي لا يعكس البنية الإجتماعية بشكل مباشر, ويمكن تلخيص النقاط التي حللها جيجيك لعودة حزب النظام بقيادة بونابرت حين انطفأت جذوة الثورة :
1-    الإعتماد على الفائض المهمل, القمامة المتبقية من كل طبقة, الدعم للبائس اجتماعياً : عائلات البرجوازية المحطمة, النصابون, الدجالون, المقامرون, القوادون, بائعو الملابس المستعملة, السمكرية, المسجونون المنتهية عقوبتهم ,  (( مبادرة للعمل العام ولكن العمل العام يزيد الالتزامات الضريبية على الناس: وبالتالي الانتقاص من الضرائب عن طريق الهجوم على أصحاب الدخول .. مضاعفة ضريبة الخمور للذين يشترون الخمور بالجملة, ويخفض إلى النصف ضريبة الخمر للطبقة المتوسطة التي تشرب كل المبيعات, حل جمعيات العمال الحقيقية, ولكن مع وعود بجمعيات مستقبلية إعجازية )) .
2-    الدور الخاص لليهود كدخيل أجنبي يفرض التهديد على هيكل المجتمع (( الطريقة التقليدية للتنصل من التناحر وتقديم موقف المرء كتمثيل للكل هو إلقاء سبب التضاد على متطفل أجنبي يمثل تهديداً للمجتمع ذاته كعنصر فائض على المجتمع )) .
3-    التصرف كممثل للطبقة غير الممثلة, التي لاتسطيع تمثيل نفسها, الفلاحون الصغار هي الطبقة المتوسطة سيئة السمعة كما يصفها جيجيك, حيث تريد أن تحافظ على طريقتها في العيش ولهذا تميل لمساندة الانقلابات الشمولية التي تميل لوضع حد للحراك السياسي المجنون (( من جهة أخرى فأعضاء الطبقة المتوسطة المتنكرين الآن في الغالبية الأخلاقية الوطنية كثيرة العمل المهددة هم المحرضون الرئيسيون على الحركات الشعبوية المتجذرة )) .
يعيد تعريف السياسة على أنها المسافة بين الاقتصاد وبين نفسه, الاقتصاد كما هو في نسقه المثالي والاقتصاد كما هو في نسقه الواقعي, منتقداً التأويل الماركسي الاجتماعي للنضال الطبقي, حيث يعتمد التأويل على منطقين يرى أنهما لايتبعان المنطق نفسه: الإقتصاد يحدد كل شيء في المرحلة الأخيرة, وكل شيء سياسي . بالنسبة لجيجيك فالنضال الطبقي مصطلح فريد يساند على الفور اللحظة السياسية غير ممكنة الإختصار في قلب الاقتصاد .
وداخل تحليله لنسق الدولة يبني انتقاده لماركس ولينين حيث تجاهل ماركس الأثر المترتب على صناعة الدولة ومدى تأثيره, اختصر ماركس الدولة إلى ظاهرة ثانوية للقاعدة الاقتصادية, (( بعيداً عن منع تنامي الدول الطاغية المتحررة من أي آلية للتحكم الاجتماعي , فهذا التجاهل فتح فضاء قوة غير مقيدة للدولة )) .
النموذج الرأسمالي للدولة يقرأه اليوم من خلال أمريكا التي تظهر نفسها كقوة عسكرية وأيديولوجية, حيث أصبح العالم مقسماً إلى أوروبا وأجزاء من أمريكا اللاتينية وأجزاء من آسيا  كقوة صناعية, وبقية العالم الثالث كمجموعة من العبيد, (( الرأسمالية العالمية جلبت نزوعاً عاماً جديداً تجاه الأوليجارشية – حكم الأقلية – مقنعة كاحتفاء بالتنوع الثقافي )) متنبئاً أن هذا العالم الجديد سينهار حيث أمريكا هي التي تحتاج العالم وليس العالم هو من يحتاجها .

في الفصل الأخير يقدم جيجيك نظرة ختامية حيث لايريد أن تقرأ هذه الأحداث كجزء من الماضي أو الحاضر بل كجزء من المستقبل حيث لاتوجد الآن حلول للخروج والنخب تفقد القدرة على الحكم والأكثر إزعاجاً كما يعبر أن الديمقراطية لم تعد نافعة, لكنه لا يبني تصوراً مثالياً عن المجتمع الشيوعي في المستقبل إنه يعود ليمارس شيوعية متحجبة كما يطلق عليها تقرأ الاشارات التي تأتي من ميدان التحرير مثلاً معللاً أن المستقبل ليس موضوعياً ولن يتحقق إلا من خلال انغماس ذاتي يدعمه, منتقداً اليسار الذي لا زال غارقاً في إخفاقات القرن الماضي, غير قادرعلى الرد في ظل حصول ماكان يتنبأ به من ركود اقتصادي وتفسخ اجتماعي, ويختم (( علينا أن نقبل تماماً هذا الانفتاح ولا نقود أنفسنا إلى شيء أكثر من الإشارات الغامضة من المستقبل ))




[1] انظر الموقع التالي لمزيد من المعلومات حول الثورة ثورة هايتي

Tuesday, May 3, 2016

نقد الفكر اليومي


قراءة في كتاب نقد الفكر اليومي
د.حسن حمدان

قراءة مي عبد الوهاب

نبذة عن الكاتب:
يصادف هذا الشهر ايار/مايو ذكرى اغتيال المناضل لأجل  الإنسان  حسن حمدان أو  المشهور (بمهدي عامل) هو مفكر وفيلسوف لبناني اشتهر بفكره الثوري التقدمي(العملي) على نموذج كارل ماركس, مهدي عامل لم يكن مفكراً تنظيرياً فقط بل امتد عمله المعرفي إلى الساحة النضالية والسياسية. من أبرز  ما يميز عمل مهدي هو ربطه الدائم بين مفهوم الثقافة والعمل على أرض الواقع من خلال التثوير على كل ما هو مسيطر " في ضرورة أن يكون المثقف ثائراً او لا يكون!" قام بوصفه الكثيرون بغرامشي[1] العرب رغم التحفظ على التشبيه ولكن يعود ذلك للسبق التاريخي والاشتراك في الفكر والمنهج الماركسي.

محاولة منا لإحياء ذكرى احدى رموز الفكر النضالي قمنا بقراءة سريعة لكتابه الاخير "نقد الفكر اليومي" الذي كان آخر محطات قلمه والذي لم يكتمل بسبب الاغتيال, وقد بدأ حسن كتابة هذا الكتاب في مطلع الثمنينيات لكنه توقف بسبب حصار لبنان والحرب الطائفية واشتغاله بكتابه الاخر "في الدولة الطائفية" ثم عاد إليه لاحقا.
قام مجموعة من اصدقائه وطلابه بجمع الكتاب وترتيبه وذلك حتى يقام نشره والاستفادة من افكاره وان لم يكتمل بعد.

 فكرة الكتاب قائمة على عدة نصوص و اّراء مختلفة وردود أفعال , كانت تنشر في الصحف اليومية والمجلات الشهرية التي تعنى بالثقافة والفكر من قبل كتاب أمثال أدونيس, موسى وهبه, رضوان السيد الخ.. من كتاب تلك الحقبة فأراد مهدي نقد هذا النوع من الكتابة والتحليل السريع المبسط وهذا ما أسماه فكرا يوميا(وهو ما يشبه كثيرا اليوم وسائل التواصل الاجتماعي بالاضافة الى الصحف بطبيعة الحال) وحاول ان يكشف عيوب ذلك النمط من الكتابة وطريقة التحليل كونه لا يعبر عن التعقيد الحقيقي للأحداث بل إنه كان يختزل الصراعات بتعليقات بديهية تزيف بها الوعي العام وتخلق نوع من التطبيع العدمي لمشاكل الانسان اليومية فيصبح الفكر هشا لا يواجه مسؤولية النقد والتحليل الصارم للامور. ولا نخفي على من يحاول قراءة هذا الكتاب بأنه لن يواجه مادة بسيطة, فطريقة مهدي في الكتابة وترابط الافكار الكثيفة تحتاج لتركيز كبير لا نستطيع القول باننا قد استطعنا فك شفرات الكتاب حقا فهو يحتاج للقراءة المتأنية المتكررة.

تدور أهم  الأفكار الرئيسية التي تضمنها الكتاب أو  ما أسماها البعض معارك على عدة توجهات في الحقل الايديولوجي. اولها اصحاب التوجه العدمي في طريقة التفكير والتحليل ويسمي فكر أصحاب هذا التوجه بالفكر الذي يريد لنفسه دائماً موقع الصفر ويلغي التناقض ويضع القاتل والمقتول في أرضية واحدة! إذ النقد من موقع اللاموقع ليس نقدا ويشبه هذا النوع بالفكر الديني الجامد كما في النص التالي"من موقع رفض التاريخ, ومن خارج دائرة زمانه اي من موقع "القدسي", هذا الذي هو في التاريخ موقع الفكر الديني وموقع فكر عدمي هو فكر ديني مقلوب, يلغي الله ويستبدله بالصفر الكلي, وينظر في التاريخ بعين الله الملغي, من موقعه في المطلق. لا يتغير شيء باستبدال المطلق بالمطلق, فمن موقعه ينظر في التاريخ الفكر العدمي, وينظر فيه الفكر الديني فيختلط الاسود بالابيض, سواء بسواء, تلغى الاضداد, ويبقى القدسي, العدم, المطلق, وهم بالطهر, ومهزلة الفكرين في مقاربة للتاريخ تلغي التاريخ, ورفض للسياسة يؤكدها."

ثانيا تجده ينتقد كثيرا وبشدة ثنائية الأنا والاخر وأغلب  الثنائيات المتمثلة مثلا في الشرق والغرب ! العرب والعجم الاسلام ودار الحرب, الخارج والداخل الخ.. من منطق الثنائيات. وسيلاحظ القارىء هذا التوجه يتكرر كثيرا في اقتباسات الكاتب لعدة نصوص تنقد المنهج الماركسي  بحجة أنه لا يمثل النموذج الإسلامي الشرقي وأن  ظهوره في اوروبا يجعله لا يصلح للتطبيق في دول الاسلام,وايضا لأنه مبني على أسس نبذ الدين بحسب تعبيرهم وأن  الماركسيين العرب يحاولون عبثاً جلب الأفكار التغريبية للعالم الإسلامي العربي. ويرى مهدي في هذه  النوعية من النقد هشاشة فكرية, ثم إنها  لماذا لا تعمم على كل العلوم؟ لطالما هي من فكر الغرب نفسه وثم إن  تلك الايدولوجية الاستعمارية هي التي اقامت الفصل بين الشرق والغرب كفكرة الفصل بين الروح والجسد مثلا ومنطق الذات و الآخر هذا هو نمط تفكير مستورد اذن من الخارج! ويحاول أيضاً  الفكر البرجوازي المتأسلم الغاء الواقع المادي باستبدال العامل الغيبي فيه والغاء الصراع الفعلي التاريخي فيه وبالتحديد تغييب العامل الاقتصادي المتمثل بعلاقات الإنتاج  التي يراها مهدي بأنها  محددات البنى الاجتماعية والصراع الطبقي ويرفض مهدي اختزال المشهد العربي الاسلامي فقط بالعامل الايديولوجي /الديني الفوقي كما يفعل هولاء النقاد, كما يرفض وصف هذا العامل الديني بأنه المحرك الأول  للبنية الاجتماعية العربية الاسلامية حيث يدعو لتفكيك العوامل الاجتماعية والتفريق بينها ويرفض التراتبية أي  بوضع عامل اهم من الآخر  وهكذا.. ولكن يقول بتوزيع العوامل في فضاء البناء الاجتماعي ووضع العامل المحدد أي عامل "علاقات الإنتاج " في خانته المادية التاريخية حتى نستطيع تحليل علاقات السيطرة في هذا البناء الاجتماعي. وينتقد الإصرار الدائم على تغييب العامل الاقتصادي  ويخص بذلك مرة أخرى  الطبقة البرجوازية المسيطرة في الكتابات العربية واستبدالها دوما بالعامل الغيبي أي الايديولوجي الديني وتعقيبا على ذلك يقول" ذلك أن  الكلام على نسق "رأسمالي" لا يمكن ان يقابله كلام على نسق "شرقي" يقابله, مثلا كلام على نسق إقطاعي أو استبدادي أو غيرهما من أنساق ما قبل الرأسمالية التي نجدها منتشرة في مجتمعات غير اوروبية. فتحديد النسق بأنه رأسمالي هو تحديد "اقتصادي" صالح له في الشرق كما الغرب هو ببساطة نمط تاريخي محدد من الإنتاج  بحسب شروط المجتمع وجميع تلك المسائل يمكن طرحها ومعالجتها في اطار مادي تاريخي. فالأمور بالنسبة للفكر الغيبي تندرج في واحدة من خانتين إما ذات وآخر .تحديد التبعية على قاعدة تغيب الاقتصادي الذي بتغيبه يتماسك هذا الفكر الغيبي ويتسق. والاقتصادي المغيب هذا هو بالضبط نمط الإنتاج  الرأسمالي الذي تم استبداله بالغرب, فلم يعد للتبعية, بهذا معنى العلاقة بين نمطين أو أكثر من الانتاج يسيطر منها واحد على الآخر في شروط تاريخية محددة, أو  بين  أشكال مختلفة من نمط الانتاج الواحد الذي هو نمط الإنتاج  الرأسمالي. لم يعد للتبعية في تعبير اخر, أساس اقتصادي هو الذي تقوم به, بل صار معنى العلاقة بين حضارتين او ثقافتين. واحد هو الغرب والآخر هو الإسلام . إ   نها  بالعكس علاقة تعايش في البنية الاجتماعية الواحدة أي علاقة تعايش بين أنماط  مختلفة في وحدة النظام الرأسمالي العالمي, أي  وحدة العلاقة الامبريالية, من حيث هي علاقة بنيوية يحكم تطورها قانون تفاوت التطور, بين بنيتين متميزتين, أو شكلين متميزين من علاقات الإنتاج  الخاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي الواحد:شكل امبريالي وشكل كولونيالي."[2]

نستشف من هذة النصوص للكاتب التعقيد الواضح! ولكن لا يخفى علينا بأنه حاول كثيراً أن  يخلق فضاء مفاهيمي عربي للماركسية مع كونية النظرية الماركسية كما أصر  أن يسميها. وقد شكلت كتابات مهدي منعطفاً  مهماً في تاريخ الكتابة الماركسية العربية حيث قام بإعادة إنتاج  أدوات تحليلية تقدمية جديدة ينبغي علينا إعادة  قراءتها قراءة نقدية واعية وتجديدها لعلنا نوفق في خلق  تغيرات جديدة في طريقة فهمنا للظواهر الاجتماعية  في ظل الصراع المحتد في المنطقة والعالم سواء .

وقد ترك لنا الشهيد مهدي الصفحات الاخيرة من كتابه هذا نصف فارغة والتي تعد متابعة لكلامه "على عدم وجود نمط معين من الإنتاج  يمكن تمييزه بأنه نمط انتاج اسلامي" لتكون المهمة الآن على الأجيال الجديدة في إكمال ما ناضل من أجله , وفي تقديم فكر تقدمي جديد يدخل في غمار الصراعات الطبقية بشكلها الجديد.










[1] أنتوني غرامشي: هو مفكر  ايطالي ماركسي اعتنى بدراسة الثقافات المسيطرة او المهيمنة ضمن فلسفة البراكسيس " الممارسة والنظرية" انظر

[2]  انظر كتاب "في نمط الانتاج الكولونيالي" للكاتب نفسه لمزيد من التفصيل حول طبيعة العلاقة الامبريالية