Monday, February 15, 2016

قراءة في كتاب محاضرات روزا لوكسمبورغ عن الاقتصاد السياسي



قراءة في كتاب محاضرات روزا لوكسمبورغ عن الاقتصاد السياسي والتاريخ الاقتصادي

قراءة  مي عبد الوهاب.
مراجعة علاء بامطرف وولاء عبد الله.

تعد هذه قراءة لكتاب "ما هو الاقتصاد السياسي؟" وهو جزء لمشروع " مدخل للاقتصاد السياسي" الذي لم يكتمل بعد، فهو يعد الفصل الأول فقط من سلسلة محاضرات ودروس ألقتها "روزا لوكسمبورغ" في عدة محافل في مدينة برلين ابتداء من عام 1907م، حيث تأجل مشروع نشره لعدة مرات:
الأولى بسبب انشغالها  بكتابة أهم أعمالها  " تراكم رأس المال" الذي أسماه  البعض مركز وقلب فكر روزا النضالي الحاسم , وكانت المرة الثانية حين اندلعت الحرب العالمية الاولى فقامت بتأجيل النشر وأخيراً بسبب سجنها .
من هي روزا لوكسمبورغ؟
روزا سميت بأسماء كثيرة وأوصاف مختلفة من مفكرة وفيلسوفة مروراً بمناضلة ثورية إلى اقتصادية أكاديمية، وقد تم وصفها من بعض المفكرين الماركسين بأنها شهيدة من شهداء الحرية والعدالة الاجتماعية للعمال " البروليتاريا " وقام بوصفها بعض منتقديها بالمتناقضة المتخبطة. روزا بولندية الأصل، ألمانية الثقافة تلقت تعليمها الأكاديمي بجامعة زيوريخ في سويسرا، منظرة ماركسية اشتراكية بدأت نضالها السياسي في عمر مبكر جدا في سن ال 16 فقط! ثم بعد ذلك انضمت إلى الحزب الاشتراكي في بولندا. بعد ذلك ذهبت إلى برلين لمتابعة نشاطها السياسي حيث تزوجت من صديقها الألماني لتحصل على الجنسية و تتمكن من الانضمام للحزب الاشتراكي الديموقراطي. سجنت لمواقفها المعادية للدولة الشيوعية بقيادة لينين ولنقدها اللاذع لنظرية المركزية، التي ترى أنها الشبح الذي يحول الشيوعية إلى نظام استبدادي فاشي.
·        يتكون الكتاب من خمسة أفكار رئيسية ناقشتها روزا:
·        إعادة تعريف مفهوم الاقتصاد السياسي .
·        مناقشة الاقتصاد العالمي و آليته وكيف وصل الى ما هو عليه آنذاك.
·        تحليل العلاقة بين ما وصفته بالتضليل البرجوازي والاقتصاد السياسي.
·        مناقشة حول جذور الاقتصاد السياسي وعلاقته بالاشتراكية.
بدأت روزا كتابها بالتذكير بتعقيد مفهوم الاقتصاد السياسي وما يحمل معه من اتجاهات واختلافات كثيرة حول طبيعة عمله وظروف ظهوره التاريخية التي ترفض بشدة نزعه عن بعده وسياقه السياسي الذي أثر كثيرا على أهدافه وتشويش الأفكار عنه وعن الغاية المرادة منه. وكانت قد ركزت كثيراُ على نقد المدرسة التاريخية المتمثلة في أحد مؤسسيها "فلهلم روخر" وخاصة في طرق تعريفهم للعلم من خلال استخدام الكلمات المرتبة تقنياً والتلاعب باللغة لاجل تسطيح الجوهر الأكثر تعقيداً. على سبيل المثال، لم تكن تقتنع بمفاهيم الاقتصادات الخاصة المتمثلة في مفهوم "الاقتصاد القومي" التي قام بتسميتها آدم سميث " اقتصاد الشعب " في كتابه المعروف (ثروة الأمم)، فهل لدى شعب ما اقتصاده الخاص به المنغلق على نفسه حقاُ؟! وتشير للتعريف التالي المقتبس من كتاب روخر (أسس الاقتصاد السياسي) " نعني بالاقتصاد السیاسي، نظریة تطور قوانین الاقتصاد القومي، والحیاة الاقتصادیة القومية فلسفة تاریخ الاقتصاد القومي كما یقول فون مانغولد: وهذا العلم، مثله مثل كافة العلوم المتحدثة عن حیاة أمة معینة، یرتبط من جهة بدراسة الفرد، ویمتد من جهة أخرى لیدرس الانسانیة جمعاء. ثم أكملت سلسلة انتقاداتها للأخير في نقد طريقة تدريس علم الاقتصاد السياسي التي وصفت أدوات تدريسه بأنها أدوات تبسيطية تصلح لتعليم الأطفال فقط.
وتذهب روزا مع التعريف التالي لعالم الاقتصاد السياسي الألماني شولمر وتراه مقبولا إلى حد ما، لكنه غير كافي:

إنه العلم الذي یبغي وصف وتعریف وتفسیر الظواهر الاقتصادیة، انطلاقا من أسبابها، ومن ثم فهمها ككل متماسك، شرط أن یكون الاقتصاد السیاسي قد تم تعریفه قبل ذلك بشكل صحیح. في صلب هذا العلم، یمكننا العثور على الظواهرالنموذجیة التي تتكرر لدى الشعوب المتمدنة المعاصرة، وهي ظواهر تقسیم وتنظیم العمل، وتدویر وتوزیع العائدات، والمؤسسات الاقتصادیة الاجتماعیة التي  بالاستناد إلى بعض أشكال الحق الخاص والعام، وإذ تكون خاضعة لهیمنة قوى طبیعیة متماثلة أومتشابهة، تؤدي إلى أحكام أو تخلق قوى متشابهة أو متماثلة وتقدم نوعاً من الصورة الجامدة للعالم المتمدن الاقتصادي المعاصر, أي نوعاً من القانون المتوسط لهذا العالم. انطلاقا من هنا، سعى هذا العلم بالتالي، هنا وهناك، إلى ملاحظة تنوعات مختلف
الاقتصادات القومیة فیما بینها، ومختلف أشكال التنظیم، لقد تساءل هذا العلم عن الترابط  والتتابع الذین ظهرت عبرهما هذه الأشكال المختلفة، فتوصل بهذا على أن یقدم نفسه بوصفه التطور السببي لهذه الأشكال : واحدة بالإنطلاق من الأخرى، ثم بوصفه التتابع التاریخي للمواقف الاقتصادیة. وبهذا تمكن هذا العلم من مفصلة السمة الدینامیكیة حول السمة الجامدة. وتمكن منذ بداياته، وبفصل أحكام القیمة الأخلاقیة التاریخیة، تمكن من أن یضع مثلاً علیا، وحافظ على الدوام على وظیفته العملیة هذه، إلى درجة معینة، وأخرى تمكن على الدوام من وضع تعلیمات عملیة للحیاة، إلى جانب النظریة." وتشير أيضاً لكارل ماركس الذي أسهمت أفكاره  بالتأثير على كل من فلسفتها ونشاطها السياسي وخاصة في كتابه رأس المال وتعلق الأمل  على فصل " نقد الاقتصاد السياسي " للكتاب وترى بأن ماركس خرج عن نطاق الاقتصاد السياسي بتعريفه المجرد وقام بنقده كشيئاُ منجزاَ ومتحققا . وتشكك روزا في تلك المحاولات التي تريد أن تؤكد أن  الاقتصاد السياسي قد ظهر كعلم انطلاقا من حاجات شعرت بها الدول الحديثة.
تستنتج روزا من واقع التعريفات والتوجهات المختلفة لما يسمى علم الاقتصاد السياسي بأنه سيظل محط جدل طويل لا ينتهي. وتشدد مرة أخرى على السياقات التاريخية والمصالح السياسية وأن التناقض في الآراء سيظل محكوماً بالسلطة ومواقع الأشخاص الاجتماعية.وعلى الصعيد الاخريرى بعض مؤرخي الاقتصاد بأن هذا العلم كان موجوداً منذ اليونانيين والرومان، و يرى مؤرخون آخرون بأنه لا يرتقي لمستوى علم إلى الآن  بالاستناد إلى الملاحظة القائلة "الاقتصاد السياسي علم قيد البدء, ومازال يحتاج الى إنجاز "

ثم تنتقل روزا للفكرة الثانية ألا  وهي الاقتصاد العالمي وظاهرة فائض الانتاج التي فتكت بالكثير من الطبقة العاملة وأعمال الفلاحة. مع ظهور التجارة العالمية والصادرات والواردات  ينتفي مفهوم الاقتصاد الخاص الذي يكفي شعبه فقط. يتناول الكتاب ألمانيا كمثال في استيرادها الكثير من الموارد الخارجية للصناعة والمنتجات الغذائية، فحتى الخبز الالماني يصنع بالحبوب الروسية، واللحمة تأتي من الماشية المجرية و الأرز من الهند وهكذا ..
أما بالنسبة للصادرات فتنتج ألمانيا الكثير من مواد الاستهلاك من منتجات الحديد والخشب ومصنوعات الزجاج إلى دول أوربية وإلى الولايات المتحدة، والسؤال هنا، هل فعلا يحتاج الشعب الالماني كل هذه المواد المنتجة أم أنها فقط لغرض التصدير! ومن الملفت للنظر أيضاً بأن معدل واردات ألمانيا أكثر من صادراتها، فكيف يمكننا أن نصر ونستمر بالقول بوجود ما يسمى الاقتصادات الخاصة أو القومية التي تخص شعب بعينه. وتنقد بشدة هذا التلاعب في تعريف الاشياء وخاصة ما يسمى بفكرة الحماية الجمركية للواردات الخارجية التي تصفها بالانغلاق المصطنع الذي يحاول تغطية عيوب ظاهرة التجارة العالمية التي انطلقت تبعا من خلال ثقافة الاستعمار مع الدول الامبريالية التي تعظم مصالحها على حساب الأيدي العاملة في ما يسمى بدول العالم الثالث. فلكي تعيش امثال تلك الدول ألمانيا إنجلترا وفرنسا و الولايات المتحدة يجب ان تلزم الآخرين في تلك الدول بأن يعملوا لأجل استمرار الحياة اليومية برفاهية في الدول الاستعمارية. تطرح بعد ذلك روزا السؤال كيف يمكن رسم الحدود بين اقتصاد شعب واقتصاد شعب اخر وكيف يمكن التحدث عن اقتصادات قومية كما لو كان الأمر يتعلق بمجالات ذات بعد وشكل واحد وكيف يمكننا النظر اليها بعد كل هذا الكم الهائل من التبادل التجاري .
وتذهب روزا بعيدا عن العلاقة الكلاسيكية لفكرة الصادرات والواردات  التي تعبر بأن  دولة ما يكون لها فائض من انتاجها لا تحتاج له فتقوم بتصديره للخارج وتستورد ما تفتقر له من موارد وتقول إن  هذه  الظاهرة التي قام باستغلالها المثقفين(الاقتصاديون) البرجوازين الذي يعملون للنظام الرأسمالي ورجال الأعمال  لتبرير تراكم وتعاظم ثرواتهم أو سلطتهم ونخبويتهم في المجتمع على حساب طبقة مأجورة  بأقل من قيمة مما تنتج ولا يمكنها الاستفادة أبداً مما تقوم بإنتاجه واصبح رأس المال هو النمط المهيمن وحده في المتغيرات الاقتصادية. وهي تسمي "رأس المال" بالسلعة الآفة الذي لا يستخدم لسد النقص في الاقتصادات القومية بل على العكس لخلق ثغرات جديدة. و تصف هذا الاقتصاد النقدي أنه اقتصاد ديون ورهن وثراء وفقر و بروليتاريا و استغلال و عواقبه وخيمة. وسنراه أكثر فحشاً مما نراه الآن في وقتنا الحالي والذي يؤدي إلى عدم أمان  و أزمات  اقتصادية مستمرة و فوضى و ثورات و حروب. إن  "الاقتصادات القومية" الأوربية تعقب قائلة : تمد أيديها  باتجاه بلدان العالم لتمزقها داخل المنظومة الرأسمالية الهائلة . وإن المبررات العلمية للهيمنة الرأسمالية  مستمرة وتبرز في رحى"الدولة القومية" لكي تدافع عن هذه الدولة حتى الرمق الأخير.
                                                                                                                  ويعتبر هذه العلاقة علماء الاقتصاد البرجوازين علاقة العرض والطلب والصادرات والواردات كما أسمتهم علاقة خارجية صرفة وطبيعية.
في فكرة التضليل البرجوازي كان الأكاديمي بوخر يرفض وبقوة فكرة امتداد التجارة العالمية وقال بأنها  لن تتوسع أبداً  ويصر على بقاء فكرة الاقتصاد القومي حاضراٌ و لا يرى أي مؤشر يدعو لهذا . ولكن كما يبدو حاليا بأن توقعات روزا كانت على حق في ازدياد غزو التجارة العالمية العالم أجمع  وليس مجرد تبادل سلع بسيط إنما  يتم قتل للسكان المحليين ولفكرة الانتاج الذي يغطي الحاجة. وتضرب روزا مثال آخر مهم في استغلال السلطة للطبقة المنتجة بأيديها في مصر حيث عمد الخديوي إلى تشجيع خلق المزارع القطنية في ازمة الحرب الأهلية  في الولايات المتحدة وحدث حينها التغير الجذري في علاقات الملكية في الريف المصري حيث تم سرقة الفلاحين اجزاء كبيرة من مزارعهم بالقوة ومن يقاوم كان يستخدم معه العنف والتصفية الكاملة وأعلنت تلك الأراضي ملكاً للخديوي وليس هذا فقط إنما  أجبروا  الفلاحين على العمل فيها بالقوة لأجل الإنتاج  وبعد ذلك التصدير للدول الاستعمارية وكانت النتيجة تدهور الأحوال المالية في مصر ومن ثم بسط جناحيه وقام باستغلال هذة الأوضاع الاستعمار الانجليزي الجشع.
تحاول روزا تحليل سياق علم الاقتصاد السياسي في ظل الطبقة البرجوازية التي سرعان ما قامت بالثورة في فرنسا ووصولت إلى  السلطة , فتم استغلال العلم لصالح مصالحها الشخصية وأصبح  لا يدرس هذا العلم الا في جامعات أوروبا المرموقة التي لا يستطيع الوصول لها سوى دائرتهم التي من ثمّ تقوم بالإمساك  بمقاليد المناصب السيادية في الدولة أو  أبناء رجال الأعمال الذين يدعمون بقوة العلم لخدمة مصالحهم الخاصة فقط وتلخص قائلة " إن  الأساس الذي يرتكز عليه الاقتصاد السياسي اليوم، ما هو سوى تضليل علمي لصالح البرجوازية ."
وتصف جذور علم الاقتصاد السياسي بأنه علم نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ترى من وجهة نظرها أنه  يتحول الى أساس علمي للاشتراكية، بينما تتحول السيطرة البرجوازية إلى سلاح في الصراع الطبقي الثوري الهادف إلى تحرير طبقة العمال "البروليتاريا" ولا تكف من تأييد كارل ماركس فتقول: مع هذا المفكر الفذ, أخذت  الاشتراكية والحركة العمالية الحديثة, مكانها لأول مرة في ميادين المعرفة العلمية الراسخة كما عبرت .
وتختم قائلة بأن الاشتراكية هي المثل الأعلى لمفهوم العدالة الاجتماعية والأخوة  بين البشر وتتوقع عودتها بقوة حتى بعد الانقلاب عليها واستغلال مبادئها من قبل الدولة الشيوعية بقيادة لينين الدكتاتور كما وصفته .

أما في جانب التعليم الاكاديمي فتناشد بالبحث العلمي الصارم و الحقيقي لفك التشوشات الغامضة و الألغاز حول سلوك البشر في حياتهم الاقتصادية, ومهمة البحث العلمي هي  التعمق في التحليل والدراسات المقارنة للكشف عن نقصان الوعي الذي تعاني  اقتصادات المجتمع منه كما تحذر من الاغراق في استخدام ادوات العلوم الطبيعية فقط لان الازمات الاقتصادية ليست من فعل الطبيعة فقط بل هي سلوكيات البشر تجاه بعضهم البعض والمتغيرات الحسابية ليست مثل المتغيرات البشرية وليست قوانين ثابتة لا تقبل الطعن!. الكتاب يعتبر محطة مهمة في فهم مسار الاقتصادي السياسي و معرفة البصمة التي تركتها مراجعات روزا لوكسبمرغ، و هو كتاب سلس عموما و تهكمي في كثير من الأحيان.