Thursday, June 30, 2016

قراءة ديفيد هارفي لكتاب توماس بيكيتي: رأس المال في القرن الحادي والعشرون


قراءة ديفيد هارفي لكتاب توماس بيكيتي رأس المال في القرن الحادي والعشرون

ولاء عبد الله، مراجعة: مي عبد الوهاب

رأس المال في القرن الحادي و العشرين

انتشر بين الأوساط الاقتصادية نقاش غير مسبوق حول الرأسمالية و قضايا اللامساواة الاقتصادية، و ذلك بعد كتاب "رأس المال في القرن الحادي و العشرين"، الذي نشر بالفرنسية عام 2013 و تبعته النسخة الإنجليزية في 2014. الكتاب نتيجة مجهود الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي[1] وعدد  من الأكاديميين الاقتصاديين، و هو عبارة عن سرد تاريخي لتوزيع و تركيز الدخل القومي و الثروة الوطنية لعشرين دولة خلال الثلاثة القرون الماضية. ربما لم يأتِ الكتاب بجديد فيما يخص أن النظام الرأسمالي عزز فجوة اللامساواة و باعد أكثر بين الطبقة العليا و الدنيا، و لكنه ناقش هذه الحقائق من منظور جديد مستندا إلى قاعدة البيانات التي حصل عليها خلال بحثه. بالرغم من أن الكثير ربطوا بحث بيكيتي بمشروع ماركس، و منهم من وصفه بالماركسي، إلا أن بيكيتي ينفي تأثره و حتى قراءته لأعمال ماركس، و نحن في هذا المقال، نستعرض قراءة نقدية من أبرز المفكرين الماركسيين المعاصرين، ديفيد هارفي، يوضح فيها بعض المآخذ على "رأس المال في القرن الحادي و العشرين".

ماذا نستنتج من "رأس المال في القرن الحادي و العشرين"؟


حينما يوفق خريج جامعة مرموقة في الحصول على وظيفة في البنك الذي يعمل فيه أحد أفراد أسرته، بينما يغرق شاب من طبقة أدنى في عرقه في موقع أعمال إنشائية، فإن ذلك ليس محض صدفة، وإنما  نتيجة طبيعية تفرزها لنا الرأسمالية و نشهدها يوميا بمختلف المستويات. إن مسألة اللامساواة ليست قضية حتمية بفعل الطبيعة الكونية أو القدرة الإلهية، و ليست نتيجة طبيعية لاجتهاد طبقة معينة في المجتمع أكثر من أخرى، بل هي نتاج نظام اقتصادي يحتكر حركة الثروة في الاتجاه للأعلى فقط، حيث يزداد الغني غنا و يُترك الفقير دون أي فرصة للحاق بركب التحرك أو التنقل داخل المجتمع تجاه فرص أفضل بنفس السرعة لأفراد طبقة أخرى في نفس المجتمع، أي ما يسمى بـ( سوشال موبيليتي[2]) . يهدف بيكيتي إلى تقديم بحثه كدليل تاريخي قاطع على ذلك، و يحاول تحليل العوامل الاقتصادية، السياسية و الاجتماعية العديدة التي أثرت في تطور حركة رأس المال منذ الثورة الصناعية. هذا التفاوت في حجم الثروة يمكن إسناده إلى العلاقة بين العائد على الدخل و معدل النمو(r>g). تاريخيا، تعدى معدل عائد الدخل معدل النمو و كان هذا هو العامل الأساسي لخلق التفاوت المذكور. بمعنى أن النمو المتسارع في مجتمع ما يقلل من أهمية تمركز الثروات، بينما تظهر الإشكالية عند تباطؤ معدل النمو. يخبرنا بيكيتي أن التفاوت في توزيع الثروات، رغم تضخمه بفعل الرأسمالية، ضروري لدفع عجلة النمو، لكن دون أن يصل هذا التفاوت لفجوة كبيرة تتحول إلى عقبة اقتصادية و اجتماعية. القراءة التاريخية الممتدة إلى القرن السابع عشر توضح أيضا نزول معدلات اللامساواة بعد الحربين العالميتين، و هو ما جاء نتيجة لظهور الطبقة ذات الدخل المتوسط. أحد الأمثلة التي تم استعراضها هو ازدياد حصص طبقة الدخل الأعلى ما بين 1980-2010م. كان ذلك جراء تصاعد اللامساواة في أجور الطبقة العاملة. في هذه الفترة كانت الطفرة التعليمية في الولايات المتحدة و التي لم يكن للجميع فرص متساوية للحصول على نصيب منها نظرا للرسوم الدراسية الباهظة و الاستثمار الحكومي غير الكافي، في الوقت الذي قفزت فيه التعويضات المالية لمديري الشركات و تقلصت الضرائب على ذوي الدخل الأعلى. على ضوء ذلك انتقد بيكيتي بشدة النظام التعليمي الحالي الذي يشكل أبرز عقبة في زمننا الحالي أمام تسلق شباب الطبقات الدنيا لسلم حرية التحرك الأجتماعي. في الفصل الأخير، يقدم بيكيتي مقترحات مع
التأكيد على أنه لا يهدف إلى تقديم نموذج حل و إنما يعرض أفكاره للنقاش الذي يساعد في توضيح آلية تحرك وتوزيع الثروات
.مما سيؤدي لفهم أدق و حلول أصلح
كمقترح، يتحدث بيكيتي عن ضريبة على الثروة العالمية تصل إلى اثنين في المائة وضريبة تصاعدية على الدخل تصل إلى 
ثمانين في المائة. و يدعو إلى خلق نظام دولي يدعم شفافية المؤسسات المالية، و يسمج بتوثيق معدلات النمو و حجم الثروات، بدلا من الاعتماد على البيانات المقدمة من البنك الدولي فقط. 


  

كيف يرى ديفد هارفي[3] "رأس المال في القرن الحادي و العشرين"؟

في مقالة نشرت على موقعه الشخصي، فصّل ديفيد هارفي وجهة نظره حول كتاب "رأس المال في القرن الحادي و العشرين" في عدة نقاط نذكر أهمها. يثني هارفي على المجهود الكبير في الكتاب ويخص بذلك طريقة جمع و عرض البيانات ثم يصف مقترحاته الأخيرة باليوتوبيا، وذلك لأنها "غير ممكنة" سياسيا. ففي ظل المشهد السياسي العالمي الآن، يصعب أن نتوقع حديثا نحو فرض ضريبة على الثروة العالمية أو الدولية. رأس المال في القرن الحادي و العشرين" لم يتحدث فعليا عن رأس المال، تكونه و حركته، بل جعله متمثلا في فئة معينة من الأصول التي يمكن تداولها. يرى هارفي أن رأس المال هو وصف "عملية" كما تم وصفه مسبقا من قبل ماركس أكثر من كونه مادة، و أننا في محاولة فهمه يجب أن نفككه إلى أجزاءه الأصغر و ندرس علاقتها ببعضها و ما ينتج عن تفاعلها. فرأس المال- كما يعرفه هارفي- هو عملية تدوير المال لكسب مال أكثر من خلال استخدام اليد العاملة. بالتأكيد لم تكن هذه العدسة التي نظر من خلالها بيكيتي لرأس المال كموضوع، بل ركز في مجمل بحثه عن قضية التفاوت في توزيعه "كمادة". يفترض هارفي أن بحثا كهذا كان من المفترض أن يجيب عن تساؤلات ذات علاقة بالنظام المالي الرأسمالي كأزمة 2008 بتبعاتها و أن يقدم فهما وافيا لعوامل حدوثها و تباطؤ التعافي منها حتى يومنا هذا، كما و على مستوى دولي، كان من المفترض أن يفسر سبب تفاوت معدلات النمو بين الدول، فالولايات المتحدة تمر بركود مقارنة بالنمو السريع للصين، في حين تواجه أوروبا تحديات اقتصادية مختلفة، و كأنه هنا يلمح إلى الدور السياسي الذي لم يأخذه بيكيتي بعين الاعتبار. يستعين هارفي بسياسات مارغريت ثاتشر كمثال، و التي كان الهدف منها إضعاف القوة السياسية للطبقة العاملة. منذ ذلك الوقت، و الفجوة تتسع، و باتساعها يضعف من هم في القاع أكثر. و بهذا يمكننا تفسير العلاقة الرياضية التي استنتجها بيكيتي دون أن يعللها، بالعوامل السياسية و باختلال الميزان بين رأس المال و القوة العاملة. هذا الاختلال استمر مع تطور التكنولوجيا التي استبدلت القوة العاملة بالمعدات و العولمة التي سهلت استئجار عمالة أرخص، بالإضافة إلى تمركز القوة السياسية في يد الطبقة العليا، دون أي سلطة أو تأثير و ربما دون حضور للطبقة العاملة.  لذا، فإن تأكيد هذه الحقيقة من خلال استعراض بيانات الدخل و الثروة على مدار الثلاثين عاما الماضية لم يصل بنا إلى نتيجة جديدة، بل إن هذه النتيجة المحققة تحدث عنها و حذر منها ماركس في الجزء الأول من كتابه. إذا، فالمسألة هنا لا تقتصر على لا مساواة مجردة من سياقها التاريخي و السياسي و محصورة في تعرفيها بأنها نتيجة اقتصادية، بل هي في الواقع مؤشر ملموس وحقيقي على صراع الطبقات، و كما قال وارن بافت، رجل الأعمال الأمريكي المعروف، "بلا شك، هناك صراع طبقات، و الطبقة التي انتمي لها، طبقة الأغنياء، هي من ستنتصر". عندما انخفضت الضرائب على الأرباح على رأس المال عام 1980 م في الولايات المتحدة، لم يكن ذلك بفعل أي قانون رياضي، بل لعبة سياسية بحتة. من جهة أخرى، يجب ألا نغفل عن أن عصر أجور الطبقة العاملة ينعكس في انحصار الطلب في الأسواق، حيث يكسب العامل من العمل على منتج أقل مما يكلفه هذا المنتج. و هنا تقع الرأسمالية مأزق آخر، بحسب ماركس.

"رأس المال" في القرن التاسع عشر لماركس، و "رأس المال" في القرن الحادي و العشرين لبيكيتي، يجعلاننا أمام حقيقة مؤلمة، و هي أن الأمور تؤول لما هو أسوأ وأعقد، و أن القضايا الملحة لا زالت تتطلب منا الكثير من البحث و الأكثر من الفهم الدقيق، لذا يجب علينا إدراك أنه لم يعد من الممكن تناول القضايا الاقتصادية بمعزل عن سياقها الاجتماعي و السياسي، بل إنه من الملح فهم كل السياقات المتداخلة لضمان اكتمال الصورة. و في قضية اللامساواة تحديدا، تلعب هذه القوى دورا كبيرا في توجيه القضية نحو السيطرة عليها أو تفاقمها.


         


مراجع:

مقالة ديفد هارفي

رأس المال، كارل ماركس، 1887م
رأس المال في القرن الحادي و العشرين، توماس بيكيتي، 2014 م
مراجعة الإيكونومست لكتاب "رأس المال في القرن الحادي و العشرين" 

موسوعة بيكيتي http://www.wid.world/





[1] توماس بيكيتي
مدير الدراسات في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية و أستاذ في مدرسة باريس للاقتصاد. صدر له الكثير من المقالات العلمية و عرف مؤخرا بكتابه "رأس المال في القرن الحادي و العشرون
[2] Social Mobility هو وصف لحركة الافراد او الأسر او فئات معينة من الناس داخل مجتمع في سياق طبقي من نظام مفتوح من الطبقات الأجتماعية

[3] ديفد هارفي
أكاديمي بريطاني، يعمل حاليا  كمحاضر في علم الإنسان بمركز الدراسات العليا لجامعة مدينة نيويورك. درس الانثروبولوجيا و الجغرافيا. له حلقة لتدارس كتاب ماركس "رأس المال" مستمرة على مدى 30 عاما.