Sunday, January 29, 2017

مفهوم الحرية



قراءة في كتاب مفهوم الحرية
د. عبد الله العروي

قراءة ولاء عبد الله و مي عبد الوهاب

يقع كتاب "مفهوم الحرية" ثانيا ضمن سلسة المفاهيم التي أرساها عبد الله العروي في سعيه لإيجاد مدلولاتها في واقع الوطن العربي و تاريخه عن طريق تحليلها في سماتها العملية المعاشة بعيدا عن التعامل معها كمفاهيم مجردة مطلقة، بهدف التقريب بين الفكر و العمل. إن إرساء المفاهيم في منظور الواقع حجر الأساس للانطلاق نحو عمل ممنهج يتعامل مع الحيثيات الحقيقية و ذات العلاقة بمجتمع ما، عكس ما يكون عند وقوعنا في خطأ إطلاق المنظور المجرد. يأتي بحث العروي حول "مفهوم الحرية" في خمس فصول، يتتبع فيها الكاتب إدلاءات السالف من المفكرين العرب الإسلاميين و الغربيين، و يقارب بينها و بين الظروف التاريخية التي كانوا فيها، ثم يقارن بين العالمين الغربي و العربي في تناولهما للمفهوم. على مدار، الفصول الخمسة نلحظ في حديث العروي ميله إلى تخصيص الخطاب عن "الفرد" داخل المجتمع المعطى و ليس الجماعة فقط عند حديثه عن تقييد أو تحرير، و يركز على مفهوم الفرد بقوله" في محيطنا اليومي نجد ضغطا على شخصية الفرد و إهمالا لكل ما يمكن أن يدفع إلى ازدهارها"  ص 135 ثم في خواتيم الكتاب يذكر لنا أنه رغما عن كون تناول المفهوم يحتم علينا معالجة مشكل الحرية و الدولة، و الحرية و المجتمع، فإنه لا ينبغي أن ننسى أن الأصل هو الفرد. نستنبط أيضا من خلال قراءتنا أن مفهوم الحرية جدلي بطبيعته، حيث يكون "وجودها معنى حيث تنفى فعلا، وتجذرها فعلا، حيث تختفي معنى" ص 136 و بكلمات أخرى، كلما اضمحلت الحرية في مجتمع ما، كلما ارتفعت أصوات المنادين بها. و لأن الحرية ليست مفهوما جامدا، بل متغيرا مع سير التاريخ، فإن هذة العلاقة الجدلية موجودة طالما وجد مشكل الإنسان و القيود أيا كان شكلها. و لنستهل قراءتنا لكتاب من هذا النوع علينا أن نضع نصب أعيننا تساءلنا حول "الحرية"، بكل ما يتبادر إلى أذهاننا من تعريفات نظن صوابها، أو دلالات نعتقد خطأها، و أن نعي أننا لن نخرج منه بتعريف محدد واضح، أو دلالة في القاموس، بل إننا سنهتدي إلى فهمه كفكرة في سياقات اجتماعية تاريخية مختلفة. نستعرض الفصول الخمسة  في لمحات مختصرة كما يلي:

طوبى الحرية

لم يكن لكلمة "حرية" التي جاءت في مطالب سفراء أوروبا لحكام العالم الإسلامي مرادف محدد، فقد أشارت وثائق في بدايات القرن التاسع عشر أن العديد من المؤرخين تساءلوا عن ماهية هذه المطالب و عما قد تعنيه. و حين فسر بعضهم معنى "الحرية" في مطالبات الأوروبيين وصفوها بأنها من أفعال الزندقة، أو على الأقل أنها من الأفعال الدخيلة التي لا أصل لها عندهم. جاءت كلمة الحرية من أوروبا كمفهوم مستورد، ليظهر لدينا مشكل التأويل الذي كان على الباحثين العرب معالجته. من هنا يتساءل المستشرقون – و يجاريهم العروي في ذلك- "هل مفهوم الحرية مأخوذ من الثقافة الغربية، حيث لا وجود له في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية؟" [1] . يجيب الكاتب عن هذا السؤال عبر التحقيق في المعنى اللغوي للكلمة و يجد أنها لا تحمل ما قد يتبادر إلى أذهاننا للوهلة الأولى، بل إنه يهتدي إلى ميدانين أساسيين، الفقهي (المروءة و التكليف) و الأخلاقي (معادلة المشيئة الفردية و المشيئة الإلهية، و علاقة الفرد بالطبيعة). ثم يتوجه إلى التحقيق الاجتماعي بعد التحقيق اللغوي ليجد أربع دلالات تجسد فيها مفهوم الحرية في الثقافة العربية. أولها البداوة، بما فيها من تمرد على القانون و القيود و عصيان لأمر الحاكم. و رغم أن البداوة لا ترادف الحرية في المعجم، إلا أنها كفكرة دلت في موروثنا على ما "تطلع إليه الناس من فسحة في العيش و فسحة في التصرف"[2]. ثاني الدلالات هو العشيرة، و التي يرى فيها العروي النقيض لقانون الدولة، و المساحة التي ضمنت حرية خارج عبودية الدولة، فالفرد العربي لا يواجه السلطان منفردا بل تحت مظلة العشيرة التي كلما ناقضت قوانين الدولة حرية أفرادها، كلما عززتها العشيرة. الدلالتين التاليتين تتناولان فكرة دينية في سياق اجتماعي، التقوى و التصوف. كلاهما يعبر عن تحرير لعقل من الذات الدنيا و انقطاع عما يقيد النفس من أهواء إلى حرية التعبد. تكسب التقوى صاحبها بمكانة اجتماعية ذات امتيازات و صلاحيات، مما ينعكس في تمتعه بحرية في التصرف أكبر من غيره، و هذه جهة أخرى لكون التقوى تعكس فكرة الحرية. أما التصوف فيعزل صاحبه عن الحياة الاجتماعية و يمكنه من التحرر الوجداني داخل دولة الاستبداد، و بذلك يلتقي مع البداوة في فكرة تمرد الفرد على الحدود المفروضة عليه. بعد الانطلاق في البحث من تساؤلات المستشرقين التي افترضت انعدام المعنى المرادف في الثقافة العربية الإسلامية و بالتالي انعدام ممارستها و انتفاء ضرورتها، يكشف لنا قاموس الكلمات و قاموس التاريخ عن تمثل الحرية في حلم الفرد العربي، و الطوبى التي يسعى لها، لكنه لا يثبت ممارستها.

الدعوة إلى الحرية (عهد التنظيمات)

نكمل في هذا الفصل الاستعراض التاريخي للتطورات الاجتماعية منذ بداية الدعوة إلى الحرية، و ما كان عليه الحال من محدودية توغل سلطة الدولة مقابل البداوة التي كانت تلعب دور موازي –ومضاد- لدور الدولة.  بدأ دور الأخيرة في التوسع مع اضمحلال أهمية دور البداوة في الحياة الاقتصادية، و بالتالي تراجع تأثيرهم، في هذه المرحلة من التاريخ ظهرت حركة الإصلاح التي هدفت إلى تقوية الدولة ضد الاستعمار، و بالتالي توسيع نطاق تحكمها في حياة الفرد الذي لم يعد بإمكانه التستر خلف العشيرة أو الفرار عبر البدواة. إن مرحلة التنظيمات لعبت دروا هاما في تغيير شكل الحياة الاجتماعية صاحبه تغيير في نوع المطالب بالحرية، فالفرد في عهد التنظيمات لا يبحث عن تحرر وجداني، بل عن استقلالية شخصية ضمن منظومة (الأسرة و المجتمع)، و من هنا جاءت المطالب بتحرير المرأة من السلطة الذكورية، و الابن من وصاية العائلة، الصانع من استغلال رب العمل و هكذا. و على مدار القرن التاسع عشر، نشهد هذا التوسع للفكر الإصلاحي الذي جاءت معه سيطرة شاملة للدولة على شؤون الحياة، فأصبحت التجربة الإنسانية تجربة سياسية، تكون فيها المطالبة حقا، و الحرية مطلبا. و بينما كانت مفردة " الحرية" تستخدم في حدود ضيقة، أصبحت ترفع كشعار في كل وقت و حين للتعبير عن كونها ضرورة اجتماعية سياسية، و هكذا لازم التطور الاجتماعي التطور اللغوي و أمكن لنا أن نفهم السياق التاريخي للضغوط الأوروبية التي حاولت اقناع الحكام العرب بأهمية الحرية المدنية كما تكلم عنها جون ميل ستيورات ولا يمكننا القول والجزم بأن دور أوروبا وحده هو الذي لعب دور المحفز لحركة الإصلاح، إنما العلاقة الجدلية مع الفرد العربي وتراثه والعلوم التي تلقاها من مجتمع سبقه تاريخيا في بعض نواحي الحياة السياسية, وأنتجت بدورها هذة التفاعلات شكل مجتمعٍ جديد أصبحت فيه هذه المطالب حاجة متأصلة في المجتمع ذاته، نابعة من صميمه و متمثلة في ثقافته.

الحرية الليبرالية

يؤكد العروي في هذا الفصل حماسة المفكرين العرب لليبرالية، و لكنه ينفي وجود تنظير رصين لها، و يُرجِع السبب إلى انعدام الوعي التاريخي المنطقي الذي يؤول بالمطالبات إلى مستوى المطالبة بالليبرالية بصورتها الحالية في العالم الحديث. ففي الوقت الذي تقبع فيه الدول العربية في مكان أبعد ما يكون عن النظام الحديث للدولة، نجد مفكريها يتشدقون مطالبا مماثلة لمطالب نظرائهم في دول أوروبية متقدمة. فكيف نفهم مشكل التزامن بين الفكر و الواقع؟ يشير العروي أن الليبرالية مرت بأربعة مراحل، تأثر المفكرون العرب برواد المتأخر منها كجون ستيوارت ميل. عاش العرب عهدا ليبراليا كشعار، لم تحصل خلاله معالجة نقدية للأسئلة الهامة المتعلقة بحدود الحرية الفردية مقابل وصاية الدولة، و كان الهم هو أن تؤصل دعوة الحرية إسلاميا بغض النظر عن التناقضات الناتجة عن ذلك. لذا فإن العهد الليبرالي العربي انصاع للضرورة الحياة الجماعية التي كانت تقتضي إطلاق الدعوة ، و إن كانت " الحرية الليبرالية لا تمثل نظرية بين نظريات الحرية، بل تنفي ضرورة الحرية"[3]، إلا أنها كانت حاجة ذلك العهد. يشير العروي إلى خصوصية الليبرالية العربية بقوله: " إن خصوصية الليبرالي عامة أن يرى في الحرية أصل الإنسانية الحقة وباعثة التاريخ وخير دواء لكل نقص...و خصوصية الليبرالي العربي أنه يعبد الحرية باندفاع لم يعد يحس به زميله الأوروبي. والسبب في ذلك هو حالة المجتمع الذي لم تتحقق فيه بعد أية صورة من صور الحرية."[4] تبدأ المرحلة الجديدة حين نصل إلى نقد هذا الشعار نحو تأصيل للمفهوم.  

من هنا أمكننا أن نستنتج أن هناك ليبرالية كمنظومة فكرية و هناك ليبرالية كحالة اجتماعية تاريخية.

 نظرية الحرية[5]

يعود بنا الكاتب إلى الأقطاب الكلاسيكيين كسبينوزا و من بعدهم كهيغل ليستعرض الاتجاه الذي سلكوه في تناولهم موضوع الحرية. يتفق هيغل مع الفلاسفة الكلاسيكين في البحث عن أصل للحرية

تشترك الكلاسيكية و الهيغلية و الماركسية في جعل الحرية جوهر الانسان، و يختلفون في تأويلها، يرجعها الكلاسيكيون إلى الإرادة الإلهية، اما هيغل فيؤوّلها في الدولة، و يأتي ماركس ليصف الطبقة، طبقة العمال بأنها ضامن الحرية و منبعها. تأتي الوجودية لتأخذ مسلكا مغايرا كليا في تعليلها الحرية لتعتبرها إرادة الفرد اللامشروطة بما سواها من قوانين الطبيعة و ظروف التاريخ. و هكذا تخرج الحرية من التاريخ، بينما اختلفت الهيغلية و الماركسية في وضعها أول التاريخ أو آخرها.

من جهة اخرى, يدرج العروي اقتباسات تظهر التأثير الكبير الذي كان للماركسية على الفكر العربي و الذي انعكس على طبيعة المطالب، و الذي في نفس الوقت يصعب ترجمته إلى واقع ملموس لأن المجتمع العربي بواقعه الحالي لم يختبر أي درجة من درجات الحرية السياسية الحقيقية بعد فكيف يقفز إلى مجتمع اشتراكي والذي لا يمنعه ايضا من التفكير فيه. جاء هذا التأثر بعد انقشاع الغمام عن التناقضات الذي أحدثتها ضبابية ما تسمى بالليبرالية العربية. و ثالث الاتجاهات التي انعكس أثرها هي الوجودية، و هذا ما أراده المثقف العربي، الرفض التام للواقع و ضرورة هدمه لتتم إعادة بنائه من جديد على أسس الحداثة التي تتناسب مع تجربته التاريخية المختلفة عن الدول الاوروبية التي تتميز بنمط انتاج رأسمالي متأصل في تكوين البنية الاجتماعية. ولم ترتقي المحاولات بعد الى اعادة إنتاج هذه الاتجاهات في شكل عربي خاص، و لا زالت تنحصر الجهود في تبني الدعوة و التعامل مع الحرية كشعار فضلا عن مفهوم تنبغي معالجته تاريخيا و فلسفيا.

ونلاحظ من ذلك الشرح والتوضيح من العروي التأكيد على "جدل" الحرية الذي يكرره في كتابه. وذلك الجدل متمثل في المعادلة التالية: أن الحرية توجد حيثما غابتْ، وتغيب حينما توجد. ونظرية الحرية ما هي إلا "كشف" ذلك الجدل". إذن نظرية الحرية في غاية الأهمية، وفي غاية التفاهة أيضاً! هكذا يخلص العروي بعد فصلٍ طويل.

اجتماعيات الحرية

الدراسة الاجتماعية للحرية تعني استخدام "الأرقام كمعايير و مؤشرات نقارن من خلالها أمس باليوم في نظرة تاريخية عامة على الإنسانية و نقارن من خلالها أيضا بين هذا المجتمع و ذاك، و بين هذه الطبقة و تلك في تحليل اجتماعي و سياسي للأوضاع الراهنة."[6] و لكي نقدر مدى التحرر الذي عايشه المجتمع العربي مؤخرا، فإننا نقارنه بمدة تحرر عرب القرون السالفة، و بما سواه من مجتمعات أخرى. و نلجأ إلى العلوم الاجتماعية لتكون دلينا في هذه التقييم. الهدف من العلوم الاجتماعية و وازع التطور فيها هو "محاولة اكتشاف طرق عملية لتحرير الفرد"[7] و عند الحديث عن العلوم الاجتماعية فإننا نعني علم الاقتصاد، علم الاجتماع، و علم السياسية. فأي تقدم أحرزه العرب في مضامير هذه العلوم؟ إن علم السياسية على سبيل المثال يعطينا مؤشرات حول مشاركة الفرد السياسية، و بالتالي مقدرته و امتلاكه لحق التصرف في رأيه السياسي. ينبغي علينا تطوير هذه العلوم لإيجاد النموذج المناسب لنا، و عند ذكرهذه العلوم، لا يقتصر العروي حديثه عن الوضع الاقتصادي و السياسي، و الحالة الاجتماعية للفرد العربي، بل يلفت انتباهنا عن ضرورة تقييم مستوى هذه العلوم في المعاهد و الجامعات و النظر في أي إحراز قدمته/تقدمه لتخدم المطالب و تحقق الفرص. و بهذا يكون استغلال العلم لتحرير الفرد. و على المستويين تحقق المجتمعات العربية مؤشرات متدنية من الحرية، ما يبرر قوة المطالبة بالحرية فيها. فوفقا لما أسماه "العلاقة الجدلية"، فإنه كلما ضعفت مؤشرات التحرر زادت المطالبة به.

ختاما، إن الحرية ليست موضوع حديثا ولا دخيلا، بل هي من صميم وجودنا و الشواهد التاريخية أثبتت ذلك. الصراع البشري لن يفتأ يوقعنا في مواجهة مع ما يحد على الإنسان من إنسانيته و يسلبه حق التصرف، لذا كانت الدعوة إلى الحرية مستمرة. علينا أن نتفاءل بتجدد هذه الدعوة وأن نستبشر بها كلما تصاعدت في مجتمعاتنا، على أن نعي الدور الأساسي الذي ينبغي على التطور العلمي والفكري أن يلعبه لتحقيق هذه المطالب. و الأهم من ذلك هو ألا ننفصل عن الواقع المعاش و أن ننظر للتاريخ كوسيلة لتفسيره وتغييره.



[1]  الكتاب ص 15
[2]  ص 25
[3]  ص 71
[4]  ص 67
[5]  "و نعني بالنظرية محاولة تأصيل الحرية بعد الوعي بالتناقضات الناشئة عن التطبيق"
[6]  ص 121
[7]  ص 123








No comments:

Post a Comment