Saturday, October 29, 2016

مقدمات تمهيدية في النظرية الماركسية




مي عبد الوهاب, مراجعة ماجد العلوان

النظرية الماركسية
(مقدمات تمهيدية)
نبذة عن المقالة:

تهدف هذه المحاولة الى التعريف التمهيدي بالأفكار الرئيسية والخطوط العريضة للنظرية الماركسية، التي أصبحت أكثر من أي وقت مضى ذات صلة وثيقة بعالمنا الحالي المليء بالكوارث الاقتصادية والسياسية في مختلف بقاع الكرة الأرضية. وتتطرق المقالة الى المحاور التالية:
1-      استهلال سريع لتقديم فكرة ضمنية حول فلسفة الفعل (البراكسيس)[1]
2-      نبذة تاريخية مختصرة عن مؤسسي النظرية الماركسية.
3-      فهم الماركسية كنظرية تاريخية.
4-      فهم الماركسية كنظرية اجتماعية.
5-      فهم الماركسية كنظرية اقتصادية.
6-      محاولة فهم الخط الفاصل بين تبني النظرية الماركسية كأيديولوجيا أو منهج علمي موضوعي في العمل السياسي (اسقاط على مثقف العالم الثالث[2]) من وجهة نظر المفكر العربي عبد الله العروي على ضوء كتابه " العرب والفكر التاريخي"
7-      وأخيراُ يجد القارئ في اخر صفحة من المقال ثبت مصطلحات يشرح بعض المفاهيم التي يحبذ ان يبدأ بها إذا كانت تبدو جديدة او غير مألوفة له. بالإضافة الى الحواشي التي أسفل كل صفحة التي تعود لمرجع معين او اسهاب لغرض التوضيح فقط.
 استهلال حول فلسفة الفعل:

"ان النزعة المادية التي ترى أن الانسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي أن الانسان يتغير بتغيير الأوضاع وتجديد التربية، تنسى أن الانسان هو الذي يغير الأوضاع وأن المربي نفسه محتاج الى تربية. فتميل هذه النزعة(المادية) الى تقسيم المجتمع الى قسمين، وجعل أحدهما فوق المجتمع كما هو الحال عند أون[3]. ان العقل لا يمكن أن يوافق بين تغير الظروف وفعالية الانسان عبر الممارسة الثورية." [4]
 يتضمن هذا النص الذي كتبه ماركس صراحة على قدرة وأهمية الفعل والممارسة الثورية للإنسان، الذي يستطيع هو وحده تغيير الظروف. وفي ذات الوقت ينتقد ماركس التيار المادي الذي يحبس الانسان داخل دائرة الظروف والوعي القائم (المهيمن). وهنا يكمن جوهر الماركسية كتيار فكري يحاول الجمع بين النظرية والممارسة معاَ. بكلمات أخرى، يحاول  هذا الفكر دوما استيعاب الذاتي والموضوعي في آن, ويحاول كذلك إخراج الأفكار إلى العالم المادي الملموس, لأن تلك الأفكار هي وليدة العقل الذي هو المادة.
 ويصف عبد الله العروي[5] الماركسية بأنها تمثل عموما منظومة فكرية تستجيب استجابة كاملة للشروط التاريخية، تبرر خصائص كل أمة، وترسم للجميع صورة مستقبل ليس وقفاً على أحد.

مؤسسي النظرية الماركسية:

تعود النظرية الماركسية الى الفيلسوف الألماني كارل ماركس. الذي ولد عام 1818 م في مدينة ترير غرب المانيا. تلقى ماركس تعليمه الأكاديمي بين مدينتي برلين وبون. ونال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكانت أطروحته حول الفلسفة اليونانية. لعبت أفكاره الثورية دورا هاما في تأسيس علم الاجتماع والحركات الاشتراكية. يعد ماركس متعدد الاهتمامات والنشاطات. فمنذ صغره انخرط في الحراك السياسي. حيث انضم في بداية مشواره الى مجموعة الهيجيلين الشباب التي انفصل عنها فيما بعد. كما كان يكتب المقالات للعديد من الصحف الراديكالية* إلى ان التقى رفيق دربه فريديرك إنجلز ابن العائلة الصناعية الألمانية الثرية في باريس عام 1844م. جدير بالذكر، أن النظرية الماركسية قد تبلورت على يد إنجلز, فلا تقل إسهاماته قيمة عما أنتجه ماركس., وذلك لكونه عملا وهماً مشتركاَ بينهم. وبدأ مشوارهم النضالي أولا في نقد مفهوم الأمة عند هيجل ونقد وتحليل الأيديولوجيا الألمانية وصولا الى نقد النمط الرأسمالي للإنتاج الذي يعد من أشهر وأبرز أعمال ماركس. وعلى إثر ذلك,  يعتبر ماركس من اهم المفكرين الاقتصاديين في التاريخ. ويجب التنويه أن ماركس لم يكن اقتصاديا فحسب, بل كان فيلسوفا وعالم اجتماع ومؤرخا وناشطا ثوريا أيضا. حاول بجميع تلك الادوات نقد نمط الإنتاج الرأسمالي من خلال النظر الى تكوين العلاقات الاجتماعية داخل هذه المنظومة. و أهم مكونات ماركس(أو النظرية الماركسية) الفكرية التي أثرت في مراحل أعماله هي ثلاث مكونات رئيسية أولها، الفلسفة الألمانية المتمثلة في هيجل ونظرته للتاريخ عن طريق منهجه الجدلي الذي طوره ماركس فيما بعد. بالإضافة الى فلسفة فيورباخ التي نقدها في كتابه المهم " أطروحات حول فيورباخ" وكتب فيها ماركس مقولته الشهيرة " كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم بطرق مختلفة-لكن المهم هو تغييره". وتعتبر الاشتراكية الفرنسية الطوباوية هي المكون الثاني لفكر ماركس, وذلك حين انتقل للعيش في باريس في الفترة 1843-1845م.أما المكون الثالث الذي لعب دورا مهما في فكر ماركس الاقتصادي بالتحديد والذي بسببه  أقدم على كتابة كتاب "رأس المال" هو فكر فلاسفة الليبرالية في الاقتصاد السياسي كآدم سميث و جون ميل ستيوارت و ريكاردوا ومالثوس . توفي ماركس بلا جنسية في لندن بعد وفاة زوجته بسنتين عام 1883 م بعد ما أصيب بالتهاب في القناة التنفسية وقال فريديرك أنجلز كلمته في صديقه " في الخامس عشر من مارس، في الثالثة الا ربع بعد الظهر، المفكر العظيم توقف عن التفكير، وقد كنا قد تركناه بالكاد دقيقتين لوحده، ولما عدنا وجدناه على كرسيه، وقد غط في نومه بسلام-ولكن للأبد"

الماركسية كنظرية تاريخية:

المادية التاريخية (Historical Materialism)

هي منهجية تقوم بدراسة المجتمعات البشرية وأنماط تطورها على مدى تمرحل التاريخ, وترتكز على المحددات والشروط المادية للتاريخ, أي علاقات الإنتاج التي تقوم بإنتاجها العلاقات الاجتماعية والتي بدورها تلعب دور مهم في تنوع الأنماط الاجتماعية بينهم, والتفاوت الطبقي الذي يوزع بدوره السلطة الاجتماعية بين فئات المجتمع الواحد.
وبعبارة أخرى، تبحث النظرية المادية للتاريخ عن عوامل وأسباب التحولات في المجتمع البشري, وعن الوسائل التي تجمع بينهم لإنتاج ضروريات الحياة. ويتضح ذلك في تعليق ماركس " لا يتكون المجتمع من الأفراد، ولكنهم يتمثلون ضمن مجموع العلاقات التبادلية، وتلك العلاقات هي التي تحدد موقع الأفراد ضمنها"
وهناك مفهوم لدى بعض المفكرين، يرى بأن المتغيرات الاقتصادية هي التي تشكل القاعدة المادية للتاريخ والمجتمع. لكن يجب التنويه بأن النظرية التاريخية الماركسية ترى بالفعل أن القاعدة الاقتصادية هي الهيكل الاساسي للمجتمع. ولكنها لا تقول بأنه يجب تحديد كل شيء في التاريخ من خلال الاقتصاد كما يعتقد البعض. وكما انه مثلا لا يمكن النظر الى ما يميز أي منزل من خلال النظر الى اساساته فقط، هكذا ذاك.
وبالنسبة للمادية التاريخية، فإنها ترى فكرة تطور المجتمع البشري خلال سلسة من المراحل التاريخية التالية[6]:
·         الشيوعية البدائية: لم يكن هناك ممتلكات خاصة، أو طبقات، أو نخب متميزة، أو شرطة، أو جهاز قسري خاص (الدولة). بل كانت الأشكال الاقتصادية في هذه الفترة بسيطة جداً. وكان البشر يتجولون بحثاً عن الطعام. ويطلق علماء الآثار على هذه الفترة مسمى العصر الحجري القديم. وبما أنه لم تكن الملكية الخاصة موجودة، فكان كل ما يصنع او يجمع او ينتج قد اعتبر ملكية مشتركة عامة أي مشاعة بين الجميع.
·         المجتمع العبودي: يعتبره الكثيرون أول ظهور لفكرة المجتمع الطبقي. وذلك حين بدأ ظهور مفهوم الملكية الخاصة التي كانت غائبة في فترة الشيوعية البدائية. ومع نشوء المجتمع الطبقي، تم إنشاء مؤسسات خاصة لحماية مصالح الطبقة الحاكمة، وبذلك، فقد أصبح هناك حاجة لهيئات مسلحة خاصة لكي تحمي الملكية الخاصة. وتم سن قوانين جديدة لحماية مالكي العبيد. وأيضا خلال هذه المرحلة بدأ تبلور نشأة الدولة وملحقاتها. وفي القرن السابع قبل الميلاد، أصبحت الأرستقراطية القبلية في اليونان طبقة حاكمة من ملاكي الأراضي والعبيد الذي تم توظيفهم لجلب الخيرات لمالكيهم، والعمل في تلك الأراضي طوال الليل والنهار. ثم بعد ذلك يتم إعطاءهم ما تبقى من استهلاك ملاكهم حتى يضمن استمرار بقائهم لخدمة تلك الطبقة الحاكمة او الأرستقراطية.
·         المجتمع الإقطاعي: هو مجتمع ظهرت فيه طبقات جديدة وهي النبلاء الإقطاعيين ملاك الاراضي والملك، والأرستقراطية، ورجال الكنيسة الكبار، والأساقفة. وتحتهم وجدت البارونات والدوقات والفرسان المتمتعين بالامتيازات. وفي الدرجات السفلى من النظام الاجتماعي وجد الأحرار، والاقنان، والعبيد. ومع نضج العلاقات الإقطاعية، أصبحت غالبية الأراضي الزراعية في أوروبا مقسمة الى مناطق تعرف بالضيع الإقطاعية حيث لكل ضيعة إقطاعية لوردها ومسؤولها الخاصون بها، والذين تمثلت مهمتهم بإدارة العقارات.
·         المجتمع الرأسمالي: تعد الرأسمالية المرحلة الرابعة في السلسة التاريخية، حيث تظهر بعد الثورة البرجوازية حين يسقط النظام الاقطاعي. وما يميز المجتمعات الرأسمالية كما هو معروف حالياً السوق الحر, و الملكيات الخاصة, و الديموقراطية البرجوازية,  وأخيرا الإمبريالية*, والتوجهات الاحتكارية ليست في السوق فقط وانما في السلطات الاجتماعية. مهدت الثورات البرجوازية الكبرى الطريق للرأسمالية. وضمنت التغيرات الزراعية نمو الزراعة الرأسمالية. حيث قسمت المقاطعات الاقطاعية القديمة ووزعت على الفلاحيين. ومن خلال السطو والتقييد والنهب والمنافسة, أصبحت وسائل الإنتاج متمركزة في أيد أقل وأقل. حيث ينتج العامل قيمة أكثر مما يتلقاه كأجر، و يصادر الرأسمالي فائض القيمة التي ينتجها، وفي بحثها عن الربح، وسط منافسة، تضطر طبقة نمط الإنتاج الرأسمالي إدخال أساليب جديدة في الإنتاج, وبهذه الطريقة لعبت الرأسمالية دوراُ تقدمياُ في تثوريها المستمر لقوى الإنتاج.
·         المجتمع الاشتراكي: وترى التاريخية المادية أن بعد تحلى الطبقة العاملة ( البروليتاريا ) بالوعي الضروري لكي تثور ضد نمط الإنتاج الرأسمالي, تحدث الثورة على الطبقة المسيطرة البرجوازية وتحل مكانها الطبقة العاملة في السيطرة على وسائل الإنتاج والسلطة وبذلك تتغلب الاشتراكية على الرأسمالية, وتحل المرحلة الخامسة للتاريخ كما رأتها تلك النظرية المادية للتاريخ. ومن أبرز الخصائص التي تميز النظام الاشتراكي, الملكية العامة لتخطط في صالح الأغلبية وتكون المركزية البيروقراطية العمالية التي اسماها ماركس نفسه" ديكتاتورية البروليتاريا" التي هي ضرورة تاريخية للتحول الأخير والحقيقي للمجتمع الشيوعي.
·         المجتمع الشيوعي اللا طبقي (لم يوجد بعد): وبعد مرور الزمن على التحول الاشتراكي والتغيرات التاريخية والتخلص من الملكية الخاصة واستغلال الطبقات لبعضها البعض، ستكون الطبقات والحاجة للدولة قد انتهت واضمحلت. كما تتخيل تلك الرؤية الماركسية للتاريخ وسيكون عصر ما قبل التاريخ انتهى سيصبح أخيراُ بإمكان القوى المنتجة التي تراكمت عبر آلاف السنين من المجتمع الطبقي، وضع الأسس لمجتمع لا طبقي حيث تصبح الدولة وتقسيم العمل غير ضروريين.

المنطق الجدلي للتاريخ(Dialectics):

يقول أنجلز على المنهج الجدلي او الجدلية " ليست الجدلية الا علم القوانين العامة للحركة ولتطور الطبيعة والمجتمع البشري والتفكير" وتعود نشأة المنهج الجدلي الفكري إلى الفلاسفة الاغريق أمثال أرسطو وأفلاطون, أي قبل أن يقوم بتطوريها كل من ماركس وإنجلز علمياً كوسيلة لتحليل تطور المجتمع البشري. يقول هيراقليطس في مضمون المفهوم الأساسي للمنطق الجدلي للتاريخ ( الديالكتيك) " كل شيء موجود وغير موجود, فكل شيء في حالة سيلان, في تغير مستمر". أي أن كل شيء في الطبيعة في حالة تغير مستمر, وأن هذا التغير يتجلى من خلال سلسلة من التناقضات. فبالنسبة للفلسفة الجدلية، ليس هناك من أمر نهائي مطلق مقدس، فهي ترى كل شيء وفي كل شيء خاتم الهلاك المحتوم, وليس ثمة شيء قادر على الصمود في وجهها غير الحركة التي لا تنقطع, حركة التصاعد أبدا دون توقف من الأدنى الى الأعلى. وهذه الفلسفة نفسها ليست الا مجرد انعكاس هذه الحركة في الدماغ المفكر.[7]
على الرغم من كل التصورات الخاطئة عن المنطق الجدلي أو الديالكتيك الموجودة في الساحة الفكرية، سيكون مجدياُ أن نذكر ما ليس جدليا او ما هو بعيدا عن المنطق الجدلي أي الذي لا يقع تحت التحليل حين يكون هو المنهجية المتبعة. الديالكتيك لا يقدم مادة جاهزة وتفسيرات لكل الأغراض، كما أنه لا يوفر معادلة او صيغة تمكننا من توقع اللا متوقع، ولا يعد أيضا هو القوة المحركة للتاريخ كما يعتقد البعض عنه. بل الديالكتيك هو طريقة تفكير تقوم بالتركيز على مجموع التغيرات والتفاعلات التي تحدث في العالم. وجزء من ذلك فإنه يشمل كيفية تنظيم الرؤية للواقع المعطى. أي المعني بالدراسة والتحليل وأيضا كيفية تقديم النتائج التي تمت دراستها.[8]
إن المادية الجدلية التي طورتها النظرية الماركسية هي تطوير لفلسفة فيورباخ المادية. وذلك عن طريق دمجها مع هيكل الجدل الهيجلي وبعد تجريده من مثالتيه. أي نفي لفرضية هيجل حول اسبقية الوعي على المادة. فبالنسبة للنظرية الماركسية لا وعي بدون مادة.
للمادية الجدلية أو الديالكيتك بالرؤية الماركسية صفتان رئيسيتان أولهما, رؤيتها للطبيعة وظواهرها كنسق مترابط, فيستحيل فهم ظاهرة بشكل منفصل عن الظواهر والظروف المحيطة بها. ثاني الصفتين, هي أن الحركة وعملية التطور والنمو المستمر أصل في الأشياء. يقدم المنهج الجدلي المادي التفسير لكيفية حدوث هذا التطور عن طريق ثلاثة قوانين مرتبطة بعضها ببعض[9]:
1.      التحول الكمي الى النوعي: يعتبر أول قوانين الديالكتيك الماركسي التحول الكمي الى النوعي والعكس وهو الأساسي للتطور. النوع هو مجموع خواص الأشياء, والتغير النوعي يكون تغيرا في حال الشيء وخواصه, اما الكم فهو العدد. يفضي هذا القانون ألى ان كل شيء في تغير كمي متواصل, حتى يتراكم الكم الى حد معين فيصبح التغير النوعي حتمياُ.
2.      صراع الأضداد (التناقضات): تبعاً للجدلية لا يمكن فصل الشيء عن نقيضه. فهما يشكلان وحدة مترابطة، فجوهر حياة الإنسان وسر بقائه هو موت وتجدد خلاياه. وصراع الأضداد هو السبب في حدوث التغيرات الكمية التي تصل لحد معين لتحدث القفزة نحو التغير النوعي. ومثال على ذلك عندما ترتفع درجة حرارة الماء فإن قوتي جذب وتنافر دقائقه تتصارعان حتى تغلب الثانية الأولى, فتفقد دقائق الماء قدرتها على التماسك، وعندها يحدث التغير النوعي للماء من السيولة الى الغازية. بناء على ما سبق فإن للتحول من الكمي الى النوعي شرطان, توافر الظروف الخارجية( درجة الحرارة في مثال الكأس) والظروف الداخلية, أي صراع الأضداد,( التناقض بين جزيئات الماء داخليا).
3.      قانون نفي النفي: يعتبر القانون الثالث من قوانين الديالكتيك هو المحدد لمعرفة مسار التطور السابق ذكره. عندنا تتراكم التغيرات الكمية لتحدث تغيراُ نوعياُ، فإن هذا التغير ينفي الحالة السابقة له مع الاستبقاء ببعض خواصها الجيدة, ومن ثم تعدو التغيرات الكمية الى عادتها في التراكم حتى تحدث القفزة النوعية فتنفي النفي السابق, فيكون النفي هنا مضاعفا. إن مسار التطور في المفهوم الجدلي هو ارتقاء لمستوى أكثر تعقيداُ من سابقه. وكما يقول السابق ذكره هيراقليطس " إنك لا تسبح في النهر مرتين"

الماركسية كنظرية اجتماعية

الصراع الاجتماعي (Social Conflict or Class Struggle):

هي نظرية جوهرها في التحليل الاجتماعي يدور حول الطبقات الاجتماعية بأفرادها وجماعاتها وصراعتهم داخل المجتمع المعطى. فتكون لديهم كميات مختلفة من الموارد تتفاوت بين الجماعات وتكون الفئة الأكثر نفوذا هي الأكثر احتكاراً لتلك الموارد من خلال استغلال الجماعات أو الطبقات الأخرى في المجتمع. يحدث هذا الاستغلال والهيمنة من خلال مصادر القوة المتمثلة في أجهزة الدولة مثال على ذلك، جهاز الشرطة والجيش بالإضافة الى قوى الإنتاج، وتعد مؤسسات المجتمع المختلفة مثل النظام القانوني والسياسي أدوات لهيمنة الطبقة الحاكمة كما انها تعمل على تعزيز مصالحها. وترى هذه النظرية بان المجتمع يخلق من رحم الصراع الطبقي بين الفئات المختلفة داخله.

نظرية الاغتراب (Theory of Alienation)

بالنسبة لماركس، فإن التاريخ البشري يحمل جانبا مزدوجاً: كان تاريخاً تزداد فيه سيطرة الانسان على الموارد الطبيعية بشكل غير مسبوق. ولكن في ذات الوقت كان تاريخاً يزيد من اغتراب الانسان لإنسانيته، أي تفصله عن نفسه وعلاقاته الاجتماعية الحقيقية فيذوب الإنسان مع تلك الموارد التي جعلت من تقسيم العمل أداة للمزيد من العزلة وتشيئ الانسان لأخيه الانسان الآخر. فينفصل العامل مثلا عما يقوم بإنتاجه، يوميا حيث لا يستطيع اقتناءه او استهلاكه مباشرة، بل يذهب كل ما أنتجه إلى سوق يتم فيه تبادل البضائع. ولا يبقى له ما يميزه عن غيره من العمال الذين هم أيضا قد تم فصلهم عما أنتجوا. فلا يبقى مبدأ المشاركة إلا من خلال تلك العلاقات المادية التي يحكمها السوق. فيصبح جهدهم ذاته سلعة تؤخذ منهم وتباع مثله مثل الأشياء التي ينتجونها. إذ حتى العلاقات العاطفية أصبحت تعاني هي الأخرى من حالة اغتراب حقيقية. فالحب بات سلعة يسوق لها لمزيد من الاغتراب والانفصال عن جوهره الأصلي فتكثر العلاقات الهشة العابرة بين الناس التي تعاملهم كمجرد كائنات لديها غرائز يجب اشباعها فحسب. ونتيجة لكل ذلك لا يصبح الحب او العمل عملية مشبعة للذات ولكن يتحول الى شر لابد منه.
فالاغتراب هو شعور مربك بالإقصاء والانفصال أي الاغتراب عن الوجود البشري، لأن الطبيعة الأساسية للبشرية كما يراها ماركس تكمن في القدرة على تشكيل وإعادة تشكيل العالم من حولنا وقفا لاحتياجاتنا وقدراتنا الإبداعية دون الحاجة للاستغلال. ولكننا محرمون من ذلك بسبب الطبيعة اللا إنسانية للرأسمالية. وأشار ماركس أيضا ان هذا النوع من الاغتراب موجود أيضا في الطبقة الحاكمة أو التي تملك وسائل الإنتاج ولكن بطريقة مختلفة عما يشعر به العامل ويعود الاختلاف للموقع الاجتماعي لكل منهم وأسلوب ونمط عيش كلا منهما.
إذن فالاغتراب ليس مجرد مفهوم للأكاديميين ليتدارسوه أو يناقشوه, بل يمكن ملاحظته في كل جوانب الحياة اليومية, كشخص يعمل لساعات طويلة في وظيفة مخدرة للعقل متشوق ليوم إجازته وفرصة الهروب من المشقة والملل في بيئة العمل التي تغيب عنها المهارة. ويؤمن ماركس بأنه لا يمكن التغلب على الاغتراب إلا من خلال استعادة الجوانب البشرية للعمل والعلاقات الاجتماعية وذلك عن طريق اللا اغتراب. حيث يرى ماركس حالة الاغتراب بانها حالة طارئة، أي خاطئة نتيجة نمط الإنتاج الرأسمالي. فلا تزال الفرصة أمام البشر ليدركوا إمكانياتهم الكاملة ويتحرروا من وسائل الاستعباد المتمثلة في الدولة، ووسائل الإنتاج والمجتمع الطبقي.

الماركسية كنظرية اقتصادية:

تمثل النظرية الاقتصادية محور الماركسية والمرحلة الأخيرة من تطور فكر ماركس نفسه أي انتقاله كما يصفه اغلب المفكرين الى العمل الموضوعي العلمي المتكامل وتحديدا في نقد الاقتصاد السياسي المتمثل في الاقتصادات المتقدمة وخصوصا إنجلترا وفرنسا آنذاك وبعد ثلاثين عاما من القراءة والتحقيق داخل مكتبة المتحف البريطاني الذي اتخذها ماركس مقراً للتقصي في جذور نمط الإنتاج الرأسمالي أخيرا قرر ماركس ولأول مرة في حياته نشر مشروعه المشهور كتاب "رأس المال" ويعد هذا الكتاب الذي يتكون من ثلاث اجزاء من اهم الكتب الحالية لفهم المنظومة الرأسمالية.

 نظرية القيمة (Theory of Value)

على عكس ما يتوقعه الكثيرون لا يبدأ ماركس تحقيقه في كتاب "رأس المال" بمفهوم الصراع الطبقي مثلا ولا يرفض مسلمات أصحاب الاقتصاد الكلاسيكي آدم سميث وريكاردو بل, ينطلق من منطقهم ويبدأ بمفهوم البضاعة التي تعتبر المرتكز الأول في نمط الإنتاج الرأسمالي. البضاعة التي لا يمكن أن تكون بضاعة إلا إذا كان لها قيمة وقيمة استعمالية، ولكن أن تكون قابلة للاستعمال ليس كافياً لنقول بأنها بضاعة, يجب أن تكون لها خصائص تبادلية في السوق. فمثلا رجل يحرث أرض بيته ويأكل منها, فهو بذلك صنع قيمة وجعل من تلك القيمة أي قيمة  عمله قيمة استعمالية, وهي أنه تغذى على ثمار ما حرث .ولكن لا نستطيع القول بأن ما قام بإنتاجه بضاعة حتى يقوم بتبادلها في السوق عن طريق بيعها او تبادلها بشي آخر. ويعد فهم القيمة أمر ضروري لتحليل وفهم الاقتصاد الرأسمالي.

نظرية قيمة العمل والاستغلال (Labour theory of Value and Exploitation)

تعتبر قوة العمل المحرك الأهم في فعالية نمط الإنتاج الرأسمالي. فقوة العمل هي القدرة والوقت اللتين يقدمهما أو يبيعهما العامل لرب العمل لإنتاج قيمة ما. فصاحب قوى الإنتاج (أي العمل) لا ينظر لقدرات وطاقات العامل إلا كمجرد بضاعة أخرى في السوق يقوم بشرائها لإنتاج قيم وبضائع أخرى يقوم بتبادلها في السوق عن طريق الاستهلاك. وفي الواقع لا يبيع العامل عمله، بل يبع قدرته ووقته للعمل، وهو الشي الوحيد الذي يملكه لإبقائه على قيد الحياة في ظل هذه المنظومة. عندئذ يمكن القول أن قوة العمل هي بضاعة تخضع قيمتها لقيمة السوق مثلها مثل البضائع الأخرى، و تتحدد بمقدار وقت العمل الضروري اللازم لإنتاجها (Socially necessary labour time) . وعلى خلاف معظم البضائع الأخرى، لا يدفع أرباب العمل قوة العمل ثمنها إلا بعد أن يستهلكوها عن طريق أجور شهرية أو أسبوعية.
وتتم عملية استغلال العمال عن طريق قوة العمل التي هي البضاعة الوحيدة التي يمكنها صنع فائض قيمة للرأسمالي. كيف يحدث ذلك؟ فلو فرضنا وجود عامل في مصنع للقطن بثمان ساعات عمل في اليوم وأجر دولار لكل ساعة من الساعات الثمان) وأنه ينتج خلال أربع ساعات بضاعة تبلغ قيمتها عشرين دولاراً تتكون من مواد خام بكلفة 11 دولار، وتبلغ كلفة التلف دولار واحد. فالقيمة الجديدة 8 دولارا التي هي أجر العامل لمدة ثمان ساعات هي قيمة ما ينتجه خلال أربع ساعات فقط. وهذا يعني أنه في الأربع ساعات المتبقية، سينتج نفس القيمة ولكن الرأسمالي لا يعطيها للعامل بل يأخذها ربح له وهذا ما له ارتباط وثيق بمفهوم بفائض القيمة. ووفقا لماركس، فإن فائض القيمة يمكن تعريفه بأنه عمل الطبقة العاملة غير مدفوع الأجر، أي انه العمل الذي يستخرجه الرأسمالي من العامل دون مقابل.

النظرية الماركسية بين الأيديولوجيا والمنهج العلمي الموضوعي (مثقف العالم الثالث نموذجاُ):

من الأيديولوجيا الى العلم

يرى الكثير من المفكرين كم ذكرنا سابقا أن مؤلفات ماركس الاقتصادية الأخيرة (رأس المال) هي لب المنهج العلمي الحقيقي للنظرية الماركسية. أي الانتقال من الكتابات السياسية والفلسفية الأولى ذات الصبغة الأيديولوجية التي كانت معنية بسؤال مستقبل ألمانيا موطنه التي كانت تعاني من تأخر سياسي وتاريخي بالمقارنة بفرنسا وانجلترا مثلا. فالهم السياسي أي سؤاله الأول هو الذي كون مواقفه السياسية الى فترة وصوله للموضوعية في البحث العلمي أو كما اسماها العروي الانتقال من ماركس الشاب الى ماركس الكهل.  فالماركسية الغربية (العابرة بالليبرالية) كما هي الآن تعتمد على النتائج الختامية في أعمال ماركس-النتائج هي آلية النظام الرأسمالي، فتبلورت لديهم قوانين تسير الإنتاج وعلاقات قطاعات الإنتاج، فهي تمثل حركة شكلنة التحليل الماركسي فتلتقي مع الاهتمامات في الغرب، مثل إرادة تعميم نظرية الاقتصاد بالبحث، انطلاقاً من منطق النظام الرأسمالي وبنيته وحركته، في بنية كل عملية تنظيم مواد محدودة لأهداف محدودة. فلذلك ينظر لها أنها ماركسية علمية موضوعية، اكتشافيه, تعرض للجميع كأنها الماركسية الصحيحة.[10]

ماركسية مثقف العالم الثالث والموقف المعادي لليبرالية

يرى العروي بأن ماركسية المثقف العربي الموجودة مبنية أساسا على نقد الليبرالية باعتبارها قائمة ومتغلبة في الأفكار والأنظمة. ويعتبر العروي هذا الأساس إحدى أهم مظاهر ضعف ماركسية المثقف العربي. أي انه ينتقد شيء لم يعشه ولم تمر به حضارته, فهو ينسى الفارق الهائل بين موقفه  وموقف المثقف الأوروبي الذي يريد تجاوز ماركس. فالمجتمعات الغربية طبقت وعاشت الليبرالية, والماركسية نشأت كردة فعل لذلك. فحين يرفض المثقف الغربي الليبرالية او الماركسية المتأثرة بها فهو بذلك يرفض أشياء ملموسة حوله. أما رفض المثقف العربي الماركسي يغرق الماركسية في الاتجاهات البعيدة عن التاريخ فيستعملها لنقد الليبرالية لأسباب ذاتية على حساب احتياجات مجتمعه التاريخية فيختبئ تحت الشعارات التي تحرك وجدان المواطن العادي مثل محاربة الغرب والاستعمار والامبريالية الفكرية, فينسلخ فعلا عن السياسة ويتركها لصالح الفكر التقليدي كما عبر عنه العروي.[11]

أي ماركسية لمثقف العالم الثالث ان يتولى؟ ولماذا؟

إن الإخفاق في السياسة يأتي قبل كل شيء من الذاتية، وتفهم أسباب الإخفاق يدفع في بعض الظروف الى اكتشاف موضوعية السياسة ثم الى موضوعية المجتمع وأخيرا إلى موضوعية التاريخ. فالعودة للتاريخ بالنسبة للعروي هي بداية الطريق لمشروع سياسي يستوعب الهدف الأول والأساسي الذي هو دفع السياسي الثوري التقدمي الغارق في الممارسة الى الاقتناع بضرورة استيعاب أيديولوجيا "محددة" لمواجهة الصراعات الأيديولوجية الموجودة في الفضاء السياسي العربي الإسلامي حتى يجابه بها الفكر التقليدي المهيمن فلا معنى للهروب بداعي " العلمية الماركسية" والوقوع في فخ الماركسية المتفتحة العالمية (أي يصبح مثقف ماركسي بلا جواز) التي هي لا تعني المثقف العربي في ضروراته السياسية الراهنة, ويعقب العروي ويصف الماركسية بأنها ذلك النظام الذي يقوم بالتزويد بمنطق العالم الحديث, أي بجميع مراحله في منهج واحد. فيقر العروي بأن ماركسية إنجلز (الماركسية التاريخية) هي التي تحتاجها الأمة العربية، وذلك لأن إنجلز قام بتحرير المسائل الفلسفية وأعطى للماركسية طابعا شمولياُ ومبسطاُ وجعل منها "أيديولوجيا" جاهزة تنير العمل, أي الاقتناع اخيرا بنظرية شاملة للتاريخ. وينوه العروي قائلا أيضا: " لا أقول إن الماركسية التاريخية هي لب الماركسية وحقيقتها المكنونة، وإنما اكتفي بتسجيل واقع والتقيد به, وهو أن الأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية الى تلك الماركسية بالذات لتكون نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافياُ وسياسياُ واقتصادياُ ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويغذي نفسه بنفسه."


ثبت المصطلحات والمفاهيم:

·         الليبرالية: هي فلسفة سياسية تأسست في القرن السابع عشر (عصر التنوير) على يد المفكر الإنجليزي جون لوك وهي قائمة على فكرتي الحرية والمساوة ومعنية بحرية الافراد وجعلها فوق كل حرية. مثال على ذلك، حرية التعبير, حرية الأديان والسوق الحر.
·         الراديكالية(اليسارية): هي الجذرية وهي فلسفة سياسية تؤكد الحاجة للبحث عن مظاهر الجور والظلم في المجتمع واجتثاثها وترتكز على تغيير البنى الاجتماعية باتباع أساليب ثورية. فالراديكاليون يبحثون عما يعتبرونه جذور الأخطاء الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمع ويطالبون بالتغييرات الفورية لإزالتها.
·         الأيديولوجيا: النسق الكلي لـلأفكار و المعتقدات و الاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة. وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه. وللنسق المقدرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه.
·         الاشتراكية الطوباوية (Utopian Socialism): هي نظرية مثالية تدعو الى بناء مجتمع إنساني سعيد يقوم على الملكية الجماعية والتساوي في توزيع المنتجات والعمل الإلزامي لكل أعضاء المجتمع.
·         الرأسمالية: هي نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات من أجل الربح. تشمل الخصائص الرئيسية للرأسمالية الملكية الخاصة، تراكم رأس المال، العمل المأجور والأسواق التنافسية.
·         الإمبريالية: هي سياسة توسيع السيطرة أو السلطة على الوجود الخارجي بما يعني اكتساب أو صيانة الإمبراطوريات. وتكون هده السيطرة بوجود مناطق داخل تلك الدول أو بالسيطرة عن طريق السياسية أو الاقتصاد. مثال على ذلك, الولايات المتحدة وبريطانيا.
·         الأرستقراطية: هي تسمية لطبقة اجتماعية تتمتع وتمتاز ببعض الصفات الخاصة، وهي تمثل الأقلية الممتازة. وهي كلمة يونانية الأصل وتعني (حكم الأفضل)، وهذه الصفة متوارثة حتى هاجمتها الثورة الفرنسية. مثال على ذلك, الطبقات الحاكمة قديماُ
·         البرجوازية: هي طبقة اجتماعية ظهرت في القرنين 15 و16، تمتلك رؤوس الأموال والحرف، كما تمتلك كذلك القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة للمحافظة على امتيازاتها ومكانتها. وهي التي قامت بالثورة الفرنسية على الحكم الاقطاعي والملكية.
·         البروليتاريا: طبقة العمال الكادحين المستغلة التي تكونت مع بداية العصر الرأسمالي في أنجلترا أولا ثم في أوروبا, وهي تعمل دون أن تملك شيئاُ.




مراجع وروابط مفيدة:
·         كتاب كارل ماركس "رأس المال", المجلد الأول
·         كتاب عبد الله العروي " العرب والفكر التاريخي"
·         كتاب عبد الله العروي " الأيديولوجيا العربية المعاصرة"











[1] البراكسيس مفهوم طوره المفكر الماركسي أنتونيو غرامشي وهو ربط النظرية والممارسة معاُ، أي العمل الموجه لتغير المجتمع
[2] هو مصطلح سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يقصد به الدلالة على الدول التي لا تنتمي إلى العالمين الأول والثاني، وهما الدول الصناعية المتقدمة. ورغم بعض التحفظ على المصطلح ولكننا ستخدمه كما استخدمه العروي لدلالات التي لا تنتمي الى الدول الرأسمالية المكتملة..
[3] روبرت أون هو مصلح اجتماعي ويلزي, وأحد واضعي أسس الاشتراكية المثالية والحركة التعاونية https://en.wikipedia.org/wiki/Robert_Owen
[4] الموضوعة الثالثة حول فيورباخ, كتاب " اطروحات حول فيورباخ"
[5]  عبد الله العروي في كتابه " الأيديولوجيا العربية المعاصرة" ص 175
[6] مدخل للماركسية روب سيويل والان وودز ترجمة مدونة ما العمل ؟
[7] المصدر السابق
[10] عبد الله العروي " العرب والفكر التاريخي"
[11] المصدر السابق


Sunday, September 25, 2016

خواطر حول التمدن والمدينة

خواطر حول التمدن والمدينة

 
  صورة جوية لأحياء شرق جدة – الشرق الأوسط (الأحـد 27 شـوال 1435 هـ 24 اغسطس 2014 العدد 15035)

ولاء عبد الله، مراجعة مي عبد الوهاب

تقودُ  سيارتك – لأنك لن تستطيع التجول مشيًا في مدينةٍ كجدة- في رحلة إلى شاطئ هذه المدينة، و تقابلك الحواجز واحدًا تلو الآخر، تحجب عنك بحرها، و تتساءل، من بين ثلاثة ملايين و نصف (1) يسكنون هذه المدينة المكتظة، كم ميلًا من الشاطئ تم احتكاره لشخوص معينة، و كم ميلا تُرك فَضْلةً للبقيّة. و إذا قُدِّر عليك أن تقطع المدينة عرضًا، فإن ذلك أشبه بمخاض عسير مقارنة بقطعها طوليا نحو الشمال. في الأولى تذهب من براحة الشوارع و نظامها (والذي يعكس الطبقة الأكثر حظًا في غرب/شمال المدينة) إلى شوارعَ ضيقة الحدود و مباني متراكمة القبح(2). أنت هنا تسير من شارع إلى آخر، من الغرب إلى الشرق، ولكنك أيضا تسير من طبقة إلى أخرى، من امتيازات إلى أخرى أقل، و في كل شارعٍ تقطعه يظهر لك جليًا الفرق بين وجهتك التي جئت منها و التي أنت ذاهبٌ إليها. قد تستقر بضع دقائق في أحد ميادين المدينة، و لو كنت من سكانها أو سبق لك زيارتها، فإنك تعلم جيدًا أن القيادة عبر الميدان صراع، و ربما هي فرصة جيدة لأن تتخيل هذا الصراع على أنه صراعُ من أجل الحياة، و من أجل حقٍ لك و لغيرك في المدينة. تصل إلى منزلك، و نعتذر إن كان منزلك منفيا في أطراف المناطق التي لا تبدو لصاحب القرار أهميةَ تطويرها كما يجب، و في تهميشها تهميش صريح لسكانها بالضرورة. على كلٍ، تصل منزلك الذي لا تفكر أن تمتلكه يومًا، فما تكسبه خلال الشهر بالكاد يمكّنك من البقاء كبضاعة مرغوبة في سوق العمل، قادرٍ على الانتقال من منزلك جنوبا –مثلا- إلى ذلك البرج الغربي المطلّ على بحرٍ، ليسَ لك. 
من الأسهل أن يلمس أحدنا مظاهر تسلط النظام العالمي على حياتنا من خلال العيش في مدينة أكثر من عيشِه "حرًا" في ريف معزول، حيث نشعر أحيانا أننا داخل مصنع ضخم، كلنا جزء منه، لكننا مغتربون عما نصنعه وعن انفسنا داخله. كما نشعر بولادة لحظة اتصال فريدة بيننا و بين العالم فور خروجنا من دائرته، متسائلين عن سبب انفصالنا عن ذاتنا و محيطنا أثناء مزاولتنا حياتنا اليومية. ذلك يثير بعض التساؤلات و الأفكار لدينا نحن، سكان المدن، و المتأملين في حالها، ما هي المدينة؟ من الذي يملك المدينة؟ هل كان يمكن أن تكون مدننا بشكل آخر؟ كيف تصمد المدينة أمام التغييرات التاريخية الضرورية، وهل تصمد أم تزول؟  هذا المقال البسيط هو مجرد استعراض لبعض الخواطر حول المدينة، و محاولة لفهم التساؤلات الضرورية في عصرنا الحالي، عصر المدينة باعتبارها "آلة الحداثة و بطلها"(3).

المدينة، التمدن، التحضر

ما هي المدينة؟ جغرافيًا هناك معايير للمدينة كعدد السكان و الكثافة السكانية، و في الدراسة الحضرية و علم الانسان تؤخذ الخدمات و شكل الحياة بعين الاعتبار. و ما يهمنا هنا من هذه المعايير هو كون المدينة تخضع لنظام إداري يتبع بشكل مباشر لنظام الدولة، بخلاف الأرياف أو القرى التي تخضع للأعراف و حكم شيخ القبيلة –دون الخروج عن إطار الدولة بطبيعة الحال-. كما تهمنا تركيبة السكان ضمن تخطيط المدينة بمراكزها الحيوية و شبكة النقل، كونها من أهم العوامل التي ترسم الاختلافَ بين مدينة و أخرى. في واقع المدينة، نجد عددًا أكبر من الخلفيات الثقافية والاقتصادية والتي تتقاطع داخل المنظومة الحضرية، يفوق عددُ الأوجه الغريبة التي نراها تلك التي نألفها، هذا النمط من الحياة الاجتماعية متفرد بالمدينة. و مع التوسع الحضري أصبحت للمدن عدة مستويات من حيث الحجم، و ترتيبها من الأصغر للأكبر كما يلي: 1- المدينة (300 ألف- مليون نسمة). 2- المدينة الكبيرة - Metropolis (مليون - 3 مليون نسمة). 3- مجموعة الكبرى، أو التجمع السكاني المركب - Conurbation (إلى 10 مليون). و أخيرا، التكتل السكاني، أو المدينة الضخمة- Megalopolis
(10 ملايين فأكثر)، و التي تنتج عن توسع عدة مدن كبرى حتى تتصل ببعضها و تشكل تجمع حضري واحد معقد (4)، كالذي يمتد من بوسطن شمالا مرورا بنيويورك إلى العاصمة واشنطن، و هو تجمع يحتضن حوالي 44 مليون نسمة (5). بالإضافة للتنوع في حجمها، فهناك تنوع في تخطيط المدينة وتضاريسها، فبعض المدن بُنيت على أنقاض الطبيعة و خُططت بالمسطرة لتضمن شكل حياة مثالي، و بعضها كان له تمدد أكثر عفوية كعاصمة المكسيك، التي نرى فيها المنازل على سفوح الجبال. المدينة الحديثة تبدو و كأنها تتحرج من وجود عشوائياتٍ تكسرُ ذلك النَسق الحديث المتماشي مع ألَق الحضارة، و لكنها في نفس الوقت تستغل تلك العشوائيات حتى آخر رمق. في عصرنا الحالي، لم يعد الامتزاج مع الطبيعة طبيعيا، بل أصبح الطبيعي أن نخلق طبيعة متماشية مع النمط الإنتاجي المهيمن. يجب أن تكون المدينة مصممة فقط لخدمة هذا النمط، وكما ذكرنا سابقا، أن تكون مصنعا، لذا نجد من انفسنا نحن و مدننا – إن كانت مدننا- أدوات لخدمة النظام و مسيريه. ونحن نقصد بالنظام هنا، الرأسمالية بوجهها النيوليبرالي، التي ما فتئت تكسر كل الحواجز أمام تمددها بكل شكل ممكن. وبالرغم من أن المدينة تتعدى الوصف الجغرافي-الاجتماعي إلى كونها فكرة وجدانية، ورمزا فريدا للحضارة ذو بصمة على الأدب والشعر، إلا أننا نرى تراجعا لهذه الفكرة في حياتنا. ومع العولمة، برزت فكرة "المدينة العالمية" كما تحدثت عنها ساسكيا ساسن(6) في كتابها "The Global City". أهم المدن عالمية في عصرنا الحالي، نيويورك، لندن وطوكيو، متبوعة بهونغ كونغ وشيكاغو وغيرها، وهي مدن أعيد تشكيلها حسب تفاعلها مع الاقتصاد العالمي وتصييرها جزءا منه. حين نقارن بين نسبة السكان الأجانب بين طوكيو ولندن، فإن الفارق كبير جدا، فأكثر من 50% من سكان لندن جاؤوا من بلدان أخرى، بينما 97% من سكان طوكيو يابانيون (7). لذا فإن حديثنا عن مدينة عالمية لا يعني بالضرورة احتضان تلك المدينة لبشر من أصقاع الأرض، بل هو ببساطة يعني أن رؤوس الأموال تتهافت إليها من كافة مراكز الأرض الاقتصادية. ومن  هذه النقطة علينا أن نضع في الحسبان، أننا حين نتحدث عن المدينة، فإن الانسان ليس المعيار، بل رأس المال.

وعلى ذكرِ الانسان، ودورِه المنشود في بناء حضارات يخلّدها التاريخ، يأتي السؤال، تمدن أم تحضر؟ وما  هي معايير التحضر؟ أي المصطلحين أصلح للاستخدام في سياق استعراض أفكارٍ حول ماهية المدينة. التمدن يعني توسع المدن جراء حركة الانتقال من الأرياف إلى المدن، أما التحضر فيعكس نوعا من الثقافة المتقدمة والمتجاوزة  لأساليب العيش البدائية. و حيث أن المجتمعات الحضرية تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها كان من الضروري دراسة موضوع التحضر اجتماعيًا و ليس فقط جغرافيا و معماريا، و هو الآن حقل علمي مشترك بين علم الانسان، الهندسة المعمارية و علم الاجتماع. في وصفٍ اجتماعي، يذكر لويس ويرث أن النظام الحضَري هو أسلوب حياة يتمتع بصفات خاصة منها تباين السكان في خلفياتهم العرقية والثقافية، التخصص في العمل و الوظائف، تنميط السلوك العام و توحيده، وجود نوع من غياب الهوية الشخصية و سريتها (8). اعتبار التحضر أسلوب حياة يَخلق لنا مساحة للتحكم فيه أو الخروج عليه، و لكن طالما كانت هذه الأنماط المشكلة للنظام الحضري هي ذاتها التي نتجت عن النظام الرأسمالي، فإن مهمة التغيير هنا تكتسب طابعا آخر. فالفرد بإمكانه الانسحاب من دائرة التحضر و خوض تجربة حياتية فردية، و لكن التغيير المجتمعي يتطلب مواجهة المنطومة ذاتها و استبدالها. لكن علينا ألا نقع في خطأ المساواة بين التحضر و الرأسمالية كمنطومتين و كمفهومين، و إن كانت ظروف الواقع الحالي تجعل منهما نظاما مندمجا نراه داخل إطار واحد، مما يجعل نقد أحدهما يأخذنا إلى نقد الآخر بالضرورة. و كمثال على ما تداولناه عن اختلاف النمط الحضاري بين مدينة و أخرى، نقارن بين مدينتين لا يمكن أن يوضعا في نفس القالب الحضاري، كدكّا و لندن، رغم تسجليهما تعدادًا سكانيًا متقاربًا. و لكن، هل نحن معنيون هنا بالتقدم الحضاري للمدينة؟ وهل للتقدم الحضاري للمدينة أثر في ارتباطها و استخدامها كماكينة إنتاج رأسمالي ضخمة؟ ربما دكّا لا تعتبر مركزًا حضاريًا يقارن بلندن، لكنها بالتأكيد تفرض نفسها على خريطة العالم كمصنع يصدّر الأيدي العاملة لتلك الاقتصادات المتطورة. لذا فإنه لا يجي اختزال القضية في التحضر بمفهومه الدارج، بل إن مدينة عالمية كلندن، قد تكون مثالا غير متحضرا، إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض الجوانب التي لا مجال لمناقشتها هنا. إذا، فإن مظاهر الرأسمالية تتجلى في المدن الكبرى و العالمية بشكل صارخ، و لكن هذا لا ينفي تغلغلها على كافة المستويات.

المدينة واللا مساواة


                                                                                            عشوائيات مومباي تحتض أبراجها 

 اللا مساواة في المدن ليست فقط نتيجة لتصيير المدينة آلة إنتاج رأسمالي، بل يتجاوز ذلك إلى جعلها مراكز جذب للاستثمارات. 
فرأس المال لا يبحث عن قرية ليستثمر فيها بل يسعى إلى توسيع نطاق المدن أكثر وأكثر مما يؤدي إلى زيادة الفجوة بين المدينة و الريف، و بشكل آخر، نرى ذلك يترجم في زيادة فجوة اللا مساواة. و لكن كيف يحدث ذلك؟ في كتابه "The Neoliberal City" يشرح ديفد هارفي(9) كيف أن بناء المدن في أساسه ما هو إلا وسيلة لاستيعاب فائض رؤوس الأموال و فائض العمالة التي تتسبب بطالتها في مشاكل اقتصادية و سياسية هي مصدر قلق للسلطة، و يوضح أن معظم مشاريع إعادة بناء المدن الضخمة لم تتعدى كونها محاولة لإنجاح هذا الاستيعاب. بناء مدينة تحت ضرورة تشغيل الفائض يعني بناءها بشكل يدعم استمرار الفائدة التي تعود على مشغليه، و ليس بالضرورة بشكل يدعم الحياة الاجتماعية و البيئية. من ذلك هدم العشوائيات و تهجير سكانها، طمس التضاريس الطبيعية و التعدي عليها، إهمال احتياجات المجموعات المختلفة المهمشة و الاهتمام فقط بما يجعل المدينة جاذبة اقتصاديا تحت غطاء السياحة وثقافة الاستثمار. ذلك يؤخذنا إلى فكرة تسليع المدينة، حيث يتم تسويق المدينة لجذب السياح و الأموال و خلق نوع من الصورة و القيمة السوقية لها هي أشبه بماركة أو براند - .تظهر الإحصاءات أن 10% من سكان العالم يقطنون في قائمة أفضل 100 مدينة، بينما 76% من قيمة كامل الاستثمارات العقارية في العالم منحصر في قائمة المئة مدينة ذاتها. بمعنى أن تسويق هذه المدن كوجهات استثمارية يجعلها تستحوذ على ثلاث أرباع قيمة الاستثمارات في العالم أجمع (10) الكثير من تلك العقارات تظل خالية بالسنين و مهملة مشكّلة مساحة مهدرة غالبا في مواقع حيوية و هامة، كان يمكن استغلالها لصالح أهل المدينة. و نضرب مثال من واقعنا العربي الخليجي مدن كدبي و الدوحة مؤخرا، و التي تقدم لنا كمدن الحلم التي تحذو حذوَ سابقاتها من المدن العالمية دون تشكيل هوية مستقلة بها، و في الواقع أنها مدن هشة خالية من أي ثقافة حقيقية بل إنها تنتهك قيم الإنسان الحقيقية. و نلحظ أن ازدهار تلك المدن و تحولها إلى مراكز اقتصاد عالمية، ينطلي على نسب لا مساواة كارثية هي في طريقها للتضخم. فعلى سبيل المثال، متوسط دخل 5% من سكان نيويورك يشكّل 88 ضعف لما يكسبه الذين يشكلون 20% من سكان المدينة، وعدد كبير من المطحونون لا يكسب أكثر من 10 ألاف دولار سنويا، و هذه الأرقام تنطلي على لا مساواة عرقية أيضا(11). نرى هذه المستويات المفجعة تتمثل في المدن التي ترسم وجه عالمنا الحالي و ليس في مكان آخر. يصف ديفيد هارفي شكل الحياة في مدينة نيويورك –وهو من سكانها-، مركز الرأسمالية العالمية في مشهدٍ يلخص شكل الحياة في مدينة قد لا تبدو بائسة من الخارج: في السادسة و النصف صباحا تكتظ محطة المترو بأولئك القادمون من الضواحي المحيطة بنيويورك، و هم غالبا من الأقليات العرقية، ليوقظوا المدينة و يحضروا القهوة لأصحاب الياقات البيضاء القادمون من الحي المقابل للبرج القابعة فيه مكاتبهم. أولئك الذي يستقلون مترو السادسة صباحا يقطنون فيما ما يمسى بدويلة صغيرة داخل المدينة تحت ظروف مختلفةٍ عما هي عليه بقية المناطق الكثر في ذات المدينة. و مع تصاعد وتيرة الإنتاج، تتسارع خطوات التوسع الحضري، ففي الصين، ظهرت عشرات المدن من العدم، و بعد إحياء تلك المدن بالجامعات و المراكز الجاذبة نجح بعضها في جذب السكان، و البعض الآخر كان تجربة حضرية فاشلة، لقبت بمدن الأشباح. فضلا عن نشوء المدن من العدم، نرى مدنا تغيرت تضاريسها كليا، كما في مومباي المتناقضة، تولد جادة أعمال واحدة تلو الأخرى من قلب العشوائيات في منظر لا تصفه الكلمات. و إذا كان فائض رأس المال المحلي يتحد مع فائض العمالة لإعادة شكل مدينةٍ ما، فإنه و مع كسر كل الحواجز أمام رأس المال، يسافر الفائض من موطنه إلى حيث أفضل فرصة استثمارية حول العالم، ليستمر في نسخ النموذج إياه في كل بقعة ممكنة.

لمدينة أفضل

لن نكون حالمين و نرشح أن الطريق لمدينة أفضل هو اقتلاع النيوليبرالية التي تسلم الخيط والمخيط للأقلية المتحكمة اقتصاديا و سياسيا، و التي تدفع بالمشاريع الحضرية لتلبي أولوياتها. ليس لأن النيوليبرالية هي الشماعة المثالية لكل ما نعانيه بهذا الخصوص، و لكن أيضا لأن وجود سلطة من نوع ما –أيا كان- يعني استحواذها على مراكز التغيير الحساسة كالمدن. هناك لمحات يمكننا تداولها و العمل عليها حتى و إن كنا داخل هذا النظام، قد تجعل من تجربة الاغتراب في المدينة أقل إيلاما. المعماريون هنا عليهم عبء كبير لفهم الطبيعة الاجتماعية للمدينة التي يصنعونها، و بيدهم تقديم نمط جديد يدعم المهمشين. يجادل ريتشارد سينيت (12) أن الشكل المادي للمدينة يلعب دورا جوهريا في العلاقات الاجتماعية، و يرشح ثلاثة حلول لتحسين التفاعل الاجتماعي في المدن الحديثة، أولها الحد من النطاق الذي كلما زاد كلما ضعفت التركيبة الاجتماعية. توسيع النطاق قد يتعدى إضعاف الصلات الاجتماعية إلى تدمير حقيقي للمجتمعات الصغيرة داخل المدينة، وهو الذي يفقد المدينة جزءا من روحها و هويتها إضافة إلى كونه أحد عوامل تفشي الجريمة. ثاني الحلول المقترحة هو التغلب على جمود المدينة عن طريق جعلها أكثر استجابة لمتطلبات الفرد و المجتمع عن طريق تبنيها لنظام مفتوح، لا تكون فيه المساحات مقيدة بوظائف محددة بل قابلة للتغير حسب الضرورة. ثالثا، تدعيم دور المساحات العامة في تغيير الحياة الاجتماعية في مدينة ما. مثال على ذلك، خطورة اعتبار الوسط هو المركز، و أن الأطراف لا حاجة للاهتمام بها، حيث يجعلهم ذلك فيما هو أشبه بتمييز اقتصادي و عزلة سياسية. يمكن للمعماريين تخطيط مدن حيث تكون أطرافها هي مراكز متعددة، بخطوط متشابكة تربط كل الجهات ببعضها و تشعر المتنقلين أنهم حين يذهبون من منطقة إلى أخرى داخل المدينة، إنما يسيرون على نفس المستوى، و ليس كمن يسير من غرب جدة إلى شرقها، رغم أن جدة لا وسط مركزي لها. 
و أخيرا، لا تخلو أفكارنا حول المدينة من الكثير من التقدير و الوجدانية، فالمدينة هي ميادين الثورة، هي مراكز التغيير و التأثير، هي ما يدفع بالإنسان إلى خلق و ابتكار صلات مشتركة باستمرار، حتى لا تتلاشى حياته وسط الاغتراب القاتل بينه و بين عمله، و بين من حوله، حتى و إن غالبته رغبته في الشعور بالانتماء و تشكيل مجتمعات صغيرة ذات روابط مشتركة كرابطة العرق مثلا، فإن خوض غمار الحياة الحضرية سينتهي به المطاف في مواجهة مع الآخر الغريب. المدينة تشعرنا بألّا مستحيل، و بأننا في لحظة خارجة عن المألوف، و خارجة عن هذا النظام، يمكننا أن نمتلكها. في حركة الخامس عشر من مايو التي اندلعت في برشلونة عام 2011، تظاهر ملايين الأسبان ضد سياسات التقشف، ضد الحكومة و البنوك. أبَوا أن يُطرَدوا من مدينتهم جراء أزمة السكن و سياسات التقشف الضارية، و قد امتدت الاحتجاجات إلى عدة مدن، فكانت الثورة. كان من انتصارات حركة 15 مايو، عودة إدارة البلديات إلى مسؤولين منتخبين من الشعب، بعد أن كان العملية لصالح الرأسمالي، مما يعني رجوح كفة المواطن و اتخاذ خطوات تخدم مصالحه أكثر من السابق(13). الأمثلة على هذا الدور الذي تلعبه المدينة كملعب سياسي لا حصر لها، علينا أن نفكر في المدينة –رغم سوداوية الصورة التي يرشحها لنا الخطاب التمديني الحديث- على أنها موقع استراتيجي لقيادة حركات التغيير و التأثير السياسي، و أن نستغل ذلك في نقد المدينة نفسها، و نقد من يسيرها، و مقاومة النظام الذي يصيَرها مسرحا لا نلعب فيه إلا دور المشاهد على أكثر تقدير، لنستردها إلينا و نصنع مسرحية تليق بانتصارنا.
- - - - - - -
هوامش
*كل الترجمات من موقع المعاني
(1) مصلحة الإحصاءات العامة
(2) تخطيط مدينة جدة أشبه بالشبكة، 8 خطوط طولية رئيسية و الكثير من الخطوط العرضية، أول خطين طوليين من جهة الغرب تضم الطبقة الأكثر حظا بوضوح، و بالأخص الشمال الغربي، بالإضافة إلى محطات التسوق و الترفيه الراقية. المدينة تتمدد طوليا بشكل أساسي و مؤخرا نشهد توسع شمال-شرقي أيضا، لذا جاء التصوير بهذا الشكل.
 (3) كما وصفها ميشيال دي سارتو في كتابه "ابتكار الحياة اليومية"، و يضيف: "لغة السلطة "تتمدن" و لكن الحاضرة هي عرضة لتناقضات تتوازن و تأتلف خارج السلطة البانوبسية. تصبح المدينة المبحث المهيمن في الأسطوريات السياسية، و لم تعد حقل العمليات المبرمجَة و المراقَبة. تحت الخطابات التي تؤدلجها، تتكاثر حِيَل و مناورات سلطات بدون هويّة جليَّة و بدون حميّة مُدرَكة و بدون وضوح عقلاني، أي تستحيل إدارتها". ابتكار الحياة اليومية، ترجمة محمد شوقي الزين، الطبعة الأولى، ص 186.
(4) هرم المستوطنات
(5) مراجعة هذا الفيديو من أكاديمية خان
(6) ساسكيا ساسن-Sakia Sassen. بروفيسورة علم الاجتماع بجامعة كولومبيا و المهتمة بمواضيع العولمة.
(7) الأرقام من ويكيبيديا
 (8) لويس ويرث- Louis Writh. عالم اجتماع أمريكي و عضو مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع.
Urbanism as A Way of Life. The American Journal of Sociology, Vol. 44, No. 1. (Jul., 1938)
(9) ديفد هارفي – أبرز المنظرين الماركسيين المعاصرين. أكاديمي بريطاني، يعمل حاليا  كمحاضر في الأنثروبولوجيا بمركز الدراسات العليا لجامعة مدينة نيويورك. درس الانثروبولوجيا و الجغرافيا. له حلقة لتدارس كتاب ماركس "رأس المال" مستمرة على مدى 30 عاما بالإضافة إلى الكثير من المؤلفات في نقد الرأسمالية و حول المدينة.
(10) إحصاءات تم استعراضها في مؤتمر "عصر الحضارة" المقام هذا العام في مدينة البندقية و بتنظيم من 
LSE Cities التابع لكلية لندن للاقتصاد و العلوم السياسية:  https://www.youtube.com/watch?v=2GbbYgiIh4s
(11) و يقصد بالا مساواة العرقية الاختلاف بين الامتيازات حسب العرق
(12) ريتشارد سينيت-Richard Sennet، بروفيسور علم الاجتماع بكلية لندن للاقتصاد و العلوم السياسة جامعة نيويورك. كرس جزءا كبيرا من أبحاثه لدراسة الروابط الاجتماعية داخل المدينة و له عدة مؤلفات حول ذلك. و مؤخرا يركز على فكرة "النظام المفتوح" كنموذج حضري مستقبلي. https://www.richardsennett.com/site/senn/UploadedResources/The%20Open%20City.pdf
 (13) عمدة مدينة برشلونة تحكي القصة هنا